الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
اعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ جَلَالَ الدِّينِ الْبَلْقِينِيَّ قَالَ: الْقِرَاءَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ وَشَاذٍّ الْقُرْآن الْكَرِيم. فَالْمُتَوَاتِرُ: الْقِرَاءَاتُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَالْآحَادُ: قِرَاءَاتُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ تَمَامُ الْعَشْرِ، وَيَلْحَقُ بِهَا قِرَاءَةُ الصَّحَابَةِ. وَالشَّاذُّ: قِرَاءَاتُ التَّابِعِينَ كَالْأَعْمَشِ، وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَنَحْوِهِمْ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ. وَأَحْسَنُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا النَّوْعِ إِمَامُ الْقُرَّاءِ فِي زَمَانِهِ، شَيْخُ شُيُوخِنَا أَبُو الْخَيْرِ بْنُ الْجَزَرِيِّ، قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ النَّشْرِ: كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ بِوَجْهٍ، وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَلَوِ احْتِمَالًا، وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا وَلَا يَحِلُّ إِنْكَارُهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءً كَانَتْ، عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشْرَةِ أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الدَّانِيُّ وَمَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ، وَأَبُو شَامَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُهُ. قَالَ أَبُو شَامَةَ فِي الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إِلَى أَحَدِ السَّبْعَةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ، وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ هَكَذَا، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَرِدُ بِنَقْلِهَا مُصَنِّفٌ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِنَقْلِهَا عَنْهُمْ، بَلْ إِنْ نُقِلَتْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى اسْتِجْمَاعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، لَا عَلَى مَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ، تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: فَقَوْلُنَا فِي الضَّابِط: (وَلَوْ بِوَجْهٍ) نُرِيدُ بِهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ النَّحْوِ، سَوَاءٌ كَانَ أَفْصَحَ أَمْ فَصِيحًا، مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَمْ مُخْتَلَفًا فِيهِ اخْتِلَافًا لَا يَضُرُّ مِثْلُهُ، إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَاتُ مِمَّا شَاعَ وَذَاعَ، وَتَلَقَّاهُ الْأَئِمَّةُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ الْأَعْظَمُ، وَالرُّكْنُ الْأَقْوَمُ. وَكَمْ مِنْ قِرَاءَةٍ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ؛ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُهُمْ كَإِسْكَانِ {بَارِئِكُمْ} [الْبَقَرَة: 45] وَ{يَأْمُرَكُمْ} [الْبَقَرَة: 67] وَخَفْضِ {وَالْأَرْحَامَ} [النِّسَاء: 1] وَنَصْبِ {لِيَجْزِيَ قَوْمًا} [الْجَاثِيَة: 14] وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ فِي {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الْأَنْعَام: 137] وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَأَئِمَّةُ الْقُرَّاء: لَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْشَى فِي اللُّغَةِ وَالْأَقْيَسِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ عَلَى الْأَثْبَتِ فِي الْأَثَرِ، وَالْأَصَحِّ فِي النَّقْلِ، وَإِذَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ لَمْ يَرُدَّهَا قِيَاسُ عَرَبِيَّةٍ وَلَا فُشُوُّ لُغَةٍ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، يَلْزَمُ قَبُولُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا. قُلْتُ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَرَادَ أَنَّ اتِّبَاعَ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْحُرُوفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ إِمَامٌ، وَلَا مُخَالَفَةُ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي هِيَ مَشْهُورَةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَنَعْنِي بِمُوَافَقَةِ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 116] فِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 184] بِإِثْبَاتِ الْبَاءِ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامَيِّ. وَكَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [100] فِي آخِرِ بَرَاءَةٍ بِزِيَادَةِ (مِنْ) فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الْمَكِّيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ فَشَاذٌّ، لِمُخَالَفَتِهَا الرَّسْمَ الْمُجَمَعَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُنَا: (وَلَوِ احْتِمَالًا) نَعْنِي بِه: مَا وَافَقَهُ وَلَوْ تَقْدِيرًا كَـ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فَإِنَّهُ كُتِبَ فِي الْجَمِيعِ بِلَا أَلِفٍ، فَقِرَاءَةُ الْحَذْفِ تَوَافِقُهُ تَحْقِيقًا، وَقِرَاءَةُ الْأَلِفِ تَوَافِقُهُ تَقْدِيرًا، لِحَذْفِهَا فِي الْخَطِّ اخْتِصَارًا كَمَا كُتِبَ: {مَلِكِ الْمُلْكِ} [آلِ عِمْرَانَ: 26]. وَقَدْ يُوَافِقُ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا نَحْوُ: {تَعْلَمُونَ} بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ تَجَرُّدُهُ عَنِ النَّقْطِ وَالشَّكْلِ فِي حَذْفِهِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى فَضْلٍ عَظِيمٍ لِلصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي عِلْمِ الْهِجَاءِ خَاصَّةً، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ فِي تَحْقِيقِ كُلِّ عِلْمٍ. وَانْظُرْ كَيْفَ كَتَبُوا {الصِّرَاطَ} بِالصَّادِّ الْمُبْدَلَةِ مِنَ السِّينِ، وَعَدَلُوا عَنِ السِّينِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِتَكُونَ قِرَاءَةُ السِّينِ- وَإِنْ خَالَفَتِ الرَّسْمَ مِنْ وَجْهٍ- قَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَصْلِ، فَيَعْتَدِلَانِ، وَتَكُونُ قِرَاءَةُ الْإِشْمَامِ مُحْتَمِلَةٌ، وَلَوْ كُتِبَ ذَلِكَ بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ لَفَاتَ ذَلِكَ. وَعُدَّتْ قِرَاءَةُ غَيْرِ السِّينِ مُخَالِفَةً لِلرَّسْمِ وَالْأَصْلِ؛ وَلِذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي {بَصْطَةً} [الْأَعْرَاف: 69] دُونَ {بَصْطَةً} [الْبَقَرَة: 247] الْبَقَرَةِ لِكَوْنِ حَرْفِ الْبَقَرَةِ كُتِبَ بِالسِّينِ وَالْأَعْرَافِ بِالصَّادِ، عَلَى أَنَّ مُخَالِفَ صَرِيحِ الرَّسْمِ فِي حَرْفٍ مُدْغَمٍ أَوْ مُبْدَلٍ أَوْ ثَابِتٍ أَوْ مَحْذُوفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مُخَالِفًا إِذَا ثَبَتَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَوَرَدَتْ مَشْهُورَةً مُسْتَفَاضَةً، وَلِذَا لَمْ يَعُدُّوا إِثْبَاتَ يَاءِ الزَّوَائِدِ، وَحَذْفَ يَاءِ {فَلَا تَسْأَلْنِي} فِي الْكَهْفِ [70] وَوَاوِ {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الْمُنَافِقُونَ: 10] وَالظَّاءِ مِنْ {بِضَنِينٍ} [التَّكْوِير: 24] وَنَحْوَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسْمِ الْمَرْدُودَةِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مُغْتَفَرٌ إِذْ هُوَ قَرِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَتُمَشِّيهِ صِحَّةُ الْقِرَاءَةِ وَشُهْرَتُهَا وَتَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ كَلِمَةٍ وَنُقْصَانِهَا وَتَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا، حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ حُكْمَهُ فِي حُكْمِ الْكَلِمَةِ، لَا يَسُوغُ مُخَالَفَةُ الرَّسْمِ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ فِي حَقِيقَةِ اتِّبَاعِ الرَّسْمِ وَمُخَالَفَتِهِ. قَالَ: وَقَوْلُنَا: (وَصَحَّ سَنَدُهَا) نَعْنِي بِه: أَنْ يَرْوِيَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْعَدْلُ الضَّابِطُ، عَنْ مِثْلِهِ، وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ، وَتَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، غَيْرَ مَعْدُودَةٍ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغَلَطِ أَوْ مِمَّا شَذَّ بِهَا بَعْضُهُمْ. قَالَ: وَقَدْ شَرَطَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّوَاتُرَ فِي هَذَا الرُّكْنِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِصِحَّةِ السَّنَدِ وَزَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَأَنَّ مَا جَاءَ مَجِيءَ الْآحَادِ لَا يَثْبُتُ بِهِ قُرْآنٌ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ؛ فَإِنَّ التَّوَاتُرَ إِذَا ثَبَتَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرُّكْنَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنَ الرَّسْمِ وَغَيْرِهِ؛ إِذْ مَا ثَبَتَ مِنْ أَحْرُفِ الْخِلَافِ مُتَوَاتِرًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَقُطِعَ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا، سَوَاءٌ وَافَقَ الرَّسْمَ أَمْ لَا. وَإِذَا شَرَطْنَا التَّوَاتُرَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْخِلَافِ انْتَفَى كَثِيرٌ مِنْ أَحْرُفِ الْخِلَافِ الثَّابِتِ عَنِ السَّبْعَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو شَامَةَ: شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ: أَنَّ السَّبْعَ كُلَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، أَيْ: كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمْ. قَالُوا: وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَنَحْنُ بِهَذَا نَقُولُ وَلَكِنْ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُمُ الطُّرُقُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِرَقُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ لَهُ، فَلَا أَقَلَّ مِنِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَّفِقِ التَّوَاتُرُ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: الشَّرْطُ وَاحِدٌ وَهُوَ صِحَّةُ النَّقْلِ، وَيَلْزَمُ الْآخَرَانِ، فَمَنْ أَحْكَمَ مَعْرِفَةَ حَالِ النَّقَلَةِ وَأَمْعَنَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَتْقَنَ الرَّسْمَ، انْجَلَتْ لَهُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ، وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَخَطَّ الْمُصْحَفِ. وَقِسْمٌ صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الْآحَادِ، وَصَحَّ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَخَالَفَ لَفْظُهُ الْخَطَّ فَيُقْبَلُ، وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِأَمْرَيْن: مُخَالَفَتِهِ لِمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ، بَلْ بِخَبَرِ الْآحَادِ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذْ جَحَدَهُ. وَقِسْمٌ نَقَلَهُ ثِقَةٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ، فَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَافَقَ الْخَطَّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: مِثَالُ الْأَوَّلِ كَثِيرٌ كَـ {مَالِكِ} وَ مَلِكَ وَ{يَخْدَعُونَ} وَ{يُخَادِعُونَ} وَمِثَالُ الثَّانِي: قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ (وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ) وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ، وَإِنْ ثَبَتَتْ بِالنَّقْلِ؛ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، أَوْ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ. وَمِثَالُ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ كَثِيرٌ مِمَّا فِي كُتُبِ الشَّوَاذِّ، مِمَّا غَالِبُ إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ وَكَالْقِرَاءَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّتِي جَمَعَهَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيُّ، وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ وَمِنْهَا: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ) بِرَفْعِ (اللَّهُ) وَنَصْبِ (الْعُلَمَاءَ)، وَقَدْ كَتَبَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ، لَا أَصْلَ لَهُ. وَمِثَالُ مَا نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَلِيلٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ رِوَايَةَ خَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ (مَعَائِشَ) بِالْهَمْزَةِ. قَالَ: وَبَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ مَرْدُودٌ أَيْضًا، وَهُوَ مَا وَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ، وَلَمْ يُنْقَلِ الْبَتَّةَ فَهَذَا رَدُّهُ أَحَقُّ، وَمَنْعُهُ أَشَدُّ، وَمُرْتَكِبُهُ مُرْتَكِبٌ لِعَظِيمٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ ذُكِرَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مِقْسَمٍ، وَعُقِدَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَجْلِسٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَعَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْقِيَاسِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا أَصْلَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَلَا رُكْنَ يُعْتَمَدُ فِي الْأَدَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ: أَمَّا مَا لَهُ أَصْلٌ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّا يُصَارُ إِلَى قَبُولِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ كَقِيَاسِ إِدْغَام: {قَالَ رَجُلَانِ} [الْمَائِدَة: 23] عَلَى: {قَالَ رَبِّ} [الشُّعَرَاء: 24- 28] وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ نَصًّا وَلَا أَصْلًا وَلَا يَرُدُّ إِجْمَاعًا مَعَ أَنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا. قُلْتُ: أَتْقَنَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ هَذَا الْفَصْلَ جِدًّا، وَقَدْ تَحَرَّرَ لِي مِنْهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ أَنْوَاعٌ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ: الْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ: وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمْعٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، عَنْ مِثْلِهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَغَالِبُ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ. الثَّانِي: الْمَشْهُورُ: وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ، وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ، وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ فَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنَ الْغَلَطِ وَلَا مِنَ الشُّذُوذِ وَيُقْرَأُ بِهِ، عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَيُفْهِمُهُ كَلَامُ أَبِي شَامَةَ السَّابِقُ. وَمِثَالُهُ: مَا اخْتَلَفَتِ الطُّرُقُ فِي نَقْلِهِ عَنِ السَّبْعَةِ، فَرَوَاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي فَرْشِ الْحُرُوفِ مِنْ كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ أَشْهَرِ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ التَّيْسِيرُ لِلدَّانِيِّ، وَقَصِيدَةُ الشَّاطِبِيِّ، وَأَوْعَبُهُ النَّشْرُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ وَتَقْرِيبِ النَّشْرِ كِلَاهُمَا لِابْنِ الْجَزَرِيِّ. الثَّالِثُ: الْآحَادُ: وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَخَالَفَ الرَّسْمَ أَوِ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ لَمْ يَشْتَهِرْ الِاشْتِهَارَ الْمَذْكُورَ، وَلَا يُقْرَأُ بِهِ، وَقَدْ عَقَدَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، لِذَلِكَ بَابًا أَخْرَجَا فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا صَحِيحَ الْإِسْنَادِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: «مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفَارِفَ خُضَرٍ وَعَبَاقِرِيٍّ حِسَانٍ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ». وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ. بِفَتْحِ الْفَاءِ». وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: «فَرُوحٌ وَرَيْحَانٌ: يَعْنِي بِضَمِّ الرَّاءِ». الرَّابِعُ: الشَّاذُّ وَهُوَ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، وَفِيهِ كُتُبٌ مُؤَلَّفَةٌ، مِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ (مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَنَصْبِ (يَوْمَ)، وَ: (إِيَّاكَ يُعْبَدُ) بِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ. الْخَامِسُ: الْمَوْضُوعُ: كَقِرَاءَاتِ الْخُزَاعِيِّ. وَظَهَرَ لِي سَادِسٌ يُشْبِهُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الْمُدْرَج: وَهُوَ مَا زِيدَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ) أَخْرَجَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ. وَقِرَاءَةِ ابْنِ الزُّبَيْر: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ). قَالَ عَمْرٌو: فَمَا أَدْرِي: أَكَانَتْ قِرَاءَتَهُ أَمْ فَسَّرَ؟ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ. وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، {الْوُرُودُ: الدُّخُولُ). قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: قَوْلُهُ: (الْوُرُودُ: الدُّخُولُ) تَفْسِيرٌ مِنَ الْحَسَنِ لِمَعْنَى الْوُرُودِ. وَغَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَأَلْحَقَهُ بِالْقُرْآنِ. قَالَ: ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي آخِرِ كَلَامِه: وَرُبَّمَا كَانُوا يُدْخِلُونَ التَّفْسِيرَ فِي الْقِرَاءَةِ إِيضَاحًا وَبَيَانًا؛ لِأَنَّهُمْ مُحَقِّقُونَ لِمَا تَلَقَّوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا، فَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الِالْتِبَاسِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُهُ مَعَهُ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى، فَقَدْ كَذَبَ. انْتَهَى. وَسَأُفْرِدُ فِي هَذَا النَّوْعِ- أَعْنِي الْمُدَرَجَ- تَأْلِيفًا مُسْتَقِلًّا.
لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَهْلِ السُّنَّةِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي بِالتَّوَاتُرِ فِي تَفَاصِيلِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُعْجِزَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ جُمَلِهِ وَتَفَاصِيلِهِ، فَمَا نُقِلَ آحَادًا وَلَمْ يَتَوَاتَرْ، يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ قَطْعًا. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: إِلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ أَصْلِهِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهَا نَقْلُ الْآحَادِ. قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ صُنْعُ الشَّافِعِيِّ فِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَرُدَّ هَذَا الْمَذْهَبُ بِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّابِقَ يَقْتَضِي التَّوَاتُرَ فِي الْجَمِيعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَجَازَ سُقُوطُ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُكَرَّرِ وَثُبُوتُ كَثِيرٍ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَشْتَرِطِ التَّوَاتُرَ فِي الْمَحَلِّ جَازَ أَنْ لَا يَتَوَاتَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُكَرَّرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ، مِثْلِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَن: 13]. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ بَعْضُ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ الْمَحَلِّ، جَازَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فِي الْمَوْضِعِ بِنَقْلِ الْآحَادِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ قُرْآنٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ وَامْتَنَعُوا مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ يَسُوغُ إِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي إِثْبَاتِ قِرَاءَةٍ وَأَوْجُهٍ وَأَحْرُفٍ؛ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْجُهُ صَوَابًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهَا. وَأَبَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَأَنْكَرُوهُ، وَخَطَّئُوا مَنْ قَالَ بِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ بَنَى الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَالَ بِإِنْكَارِ الْبَسْمَلَةِ قَوْلَهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَقَرَّرُوهُ بِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ. وَأُجِيبُ مِنْ قِبَلِنَا بِمَنْعِ كَوْنِهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ، فَرُبَّ مُتَوَاتِرٍ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَفِي وَقْتٍ دُونَ آخَرَ، وَيَكْفِي فِي تَوَاتُرِهَا إِثْبَاتُهَا فِي مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ، مَعَ مَنْعِهِمْ أَنْ يُكْتَبَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، كَأَسْمَاءِ السُّوَرِ، وَآمِينَ، وَالْأَعْشَارِ؛فَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَمَا اسْتَجَازُوا إِثْبَاتَهَا بِخَطِّهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اعْتِقَادِهَا، فَيَكُونُونَ مُغَرِّرِينَ بِالْمُسْلِمِينَ، حَامِلِينَ لَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ فِي الصَّحَابَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهَا أُثْبِتَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورِ؛ أُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا فِيهِ تَغْرِيرٌ، وَلَا يَجُوزُ ارْتِكَابُهُ لِمُجَرَّدِ الْفَصْلِ؛ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ لَكُتِبَتْ بَيْنَ بَرَاءَةٌ وَالْأَنْفَالِ. وَيَدُلُّ لِكَوْنِهَا قُرْآنًا مُنَزَّلًا: مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}... الْحَدِيثِ؛ وَفِيه: وَعَدَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةً، وَلَمْ يَعُدَّ عَلَيْهِمْ». وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْتَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنَ النَّاسِ أَعْظَمَ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ- بِسَنَدٍ حَسَنٍ- مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَغْفَلَ النَّاسُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ سِوَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِآيَةٍ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ بَعْدَ سُلَيْمَانَ غَيْرِي»، ثُمَّ قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَفْتَتِحُ الْقُرْآنَ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ، قُلْتُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: هِيَ هِيَ». وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». زَادَ الْبَزَّارُ: فَإِذَا نَزَلَتْ عَرَفَ أَنَّ السُّورَةَ قَدْ خُتِمَتْ وَاسْتَقْبَلَتْ، أَوِ ابْتُدِئَتْ سُورَةٌ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَعْلَمُونَ انْقِضَاءَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَإِذَا نَزَلَتْ عَلِمُوا أَنَّ السُّورَةَ قَدِ انْقَضَتْ. إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ- أَيْضًا- مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عَلِمَ أَنَّهَا سُورَةٌ. » إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَغَيْرُهُ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا لَا نَعْلَمُ فَصْلًا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، حَتَّى تَنْزِلَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. قَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتَ عَرْضِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْرَأُ فِي السُّورَةِ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُ جِبْرِيلُ بِالتَّسْمِيَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ السُّورَةَ قَدِ انْقَضَتْ. وَعَبَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ النُّزُولِ إِشْعَارًا بِأَنَّهَا قُرْآنٌ فِي جَمِيعِ أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ كُلِّ سُورَةٍ كَانَتْ تَنْزِلُ قَبْلَ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ، فَإِذَا كَمُلَتْ آيَاتُهَا، نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْبَسْمَلَةِ وَاسْتَعْرَضَ السُّورَةَ، فَيَعْلَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَدْ خُتِمَتْ، وَلَا يُلْحَقُ بِهَا شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ-، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. قِيلَ: فَأَيْنَ السَّابِعَةُ؟ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ السَّبْعِ الْمَثَانِي، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَقِيلَ: لَهُ: إِنَّمَا هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، فَقَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ- بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ- عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «كَانَ جِبْرِيلُ إِذَا جَاءَنِي بِالْوَحْيِ أَوَّلُ مَا يُلْقِي عَلَيَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَزَلَتْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي كُلِّ سُورَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَإِذَا خَتَمَ السُّورَةَ قَرَأَهَا، وَيَقُولُ: مَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا لِتُقْرَأَ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ-، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأْتُمِ الْحَمْدُ فَاقْرَءُوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إِحْدَى آيَاتِهَا». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقَالَ: أُنْزِلَتْ لِي آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}». الْحَدِيثَ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُعْطِي التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ بِكَوْنِهَا قُرْآنًا مُنَزَّلًا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَمِنَ الْمُشْكِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخَرُ الدِّينِ، قَالَ: نُقِلَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُنْكِرُ كَوْنَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذِتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ كَانَ حَاصِلًا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْكَارُهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَيَلْزَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ فِي الْأَصْلِ. قَالَ: وَإِلَّا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْمَذْهَبِ، عَنِ ابْنِ سُعُودٍ نَقْلٌ بَاطِلٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ، عَنْ هَذِهِ الْعُقْدَةِ. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا حُفِظَ عَنْهُ. إِنَّمَا حَكَّهَا وَأَسْقَطَهَا مِنْ مُصْحَفِهِ إِنْكَارًا لِكِتَابَتِهَا، لَا جَحْدًا لِكَوْنِهَا قُرْآنًا؛ لِأَنَّهُ كَانَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَلَّا يُكْتَبَ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِهِ فِيهِ، وَلَمْ يَجِدْهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَلَا سَمِعَهُ أَمَرَ بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّب: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهَا شَيْئًا كَفَرَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاطِلٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: هَذَا كَذِبٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَوْضُوعٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْهُ، وَفِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ وَالْفَاتِحَةُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: قَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْه: مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمُصْحَفِ، وَيَقُولُ: «إِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَوَّذَ بِهِمَا» وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَقْرَأُ بِهِمَا. أَسَانِيدُهُ صَحِيحَةٌ. قَالَ الْبَزَّارُ: وَلَمْ يُتَابِعِ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ». قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ، وَالطَّعْنُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَا يُقْبَلُ، بَلِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةٌ وَالتَّأْوِيلُ مُحْتَمَلٌ. قَالَ: وَقَدْ أَوَّلَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَلَى إِنْكَارِ الْكِتَابَةِ كَمَا سَبَقَ. قَالَ: وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ؛ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَدْفَعُ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: (وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ). قَالَ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ (كِتَابِ اللَّهِ) عَلَى الْمُصْحَفِ، فَيَتِمُّ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ. قَالَ: لَكِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ، اسْتَبْعَدَ هَذَا الْجَمْعَ. قَالَ: وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، ثُمَّ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمَا كَانَتَا مُتَوَاتِرَتَيْنِ فِي عَصْرِهِ، لَكِنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاتَرَا عِنْدَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةُ فِي مُشَكِلِ الْقُرْآنِ: ظَنَّ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ»، فَأَقَامَ عَلَى ظَنِّهِ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ أَصَابَ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. قَالَ: وَأَمَّا إِسْقَاطُهُ الْفَاتِحَةَ مِنْ مُصْحَفِهِ، فَلَيْسَ لِظَنِّهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، مَعَاذَ اللَّهِ! وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا كُتِبَ وَجُمِعَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ مَخَافَةَ الشَّكِّ وَالنِّسْيَانِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مَأْمُونٌ فِي سُورَةِ الْحَمْدُ، لِقِصَرِهَا وَوُجُوبِ تَعَلُّمِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ. قُلْتُ: وَإِسْقَاطُهُ الْفَاتِحَةَ مِنْ مُصْحَفِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النَّوْعِ التَّاسِعَ عَشَرَ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَاتُ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ، وَالْقِرَاءَاتُ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْحُرُوفِ أَوْ كَيْفِيَّتِهَا، مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَالْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ:، بَلْ مَشْهُورَةٌ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمَّا تَوَاتُرُهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ إِسْنَادَهُمْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ، وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ، عَنِ الْوَاحِدِ. قُلْتُ: فِي ذَلِكَ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي، وَاسْتَثْنَى أَبُو شَامَةَ- كَمَا تَقَدَّمَ- الْأَلْفَاظَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا عَنِ الْقُرَّاءِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْحَاجِب: مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ، كَالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَقُّ أَنَّ أَصْلَ الْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ مُتَوَاتِرٌ، وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ لِلِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّتِهِ كَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، قَالَ: وَأَمَّا أَنْوَاعُ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ فَكُلُّهَا مُتَوَاتِرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَ ابْنَ الْحَاجِبِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَوَاتُرُ اللَّفْظِ ثَبَتَ تَوَاتُرُ هَيْئَةِ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِوُجُودِهِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الْقُرْآن الْكَرِيم الْمَوْجُودَةُ الْآنَ هِيَ الَّتِي أُرِيدَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَمَّارٍ: لَقَدْ نَقَلَ مُسَبِّعٌ هَذِهِ السَّبْعَةَ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ، وَأَشْكَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْعَامَّةِ بِإِيهَامِهِ كُلَّ مَنْ قَلَّ نَظَرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْخَبَرِ؛ وَلَيْتَهُ إِذَا اقْتَصَرَ نَقَصَ عَنِ السَّبْعَةِ أَوْ زَادَ لِيُزِيلَ الشُّبْهَةَ. وَوَقْعَ لَهُ- أَيْضًا- فِي اقْتِصَارِهِ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ عَلَى رَاوِيَيْنِ أَنَّهُ صَارَ مَنْ سَمِعَ قِرَاءَةَ رَاوٍ ثَالِثٍ غَيْرِهِمَا أَبْطَلَهَا وَقَدْ تَكُونُ هِيَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ وَأَظْهَرُ، وَرُبَّمَا بَالَغَ مَنْ لَا يَفْهَمُ فَخَطَّأَ أَوْ كَفَّرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّبْعَةُ مُتَعَيِّنَةً لِلْجَوَازِ حَتَّى لَا يَجُوزَ غَيْرُهَا، كَقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَالْأَعْمَشِ وَنَحْوِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ مِنْهُمْ مَكِّيٌّ وَمِنْهُمْ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ، وَآخَرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا النَّزْرُ الْيَسِيرُ، فَهَذَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ اشْتُهِرَ عَنْهُ سَبْعَةُ عَشَرَ رَاوِيًا، ثُمَّ سَاقَ أَسْمَاءَهُمْ، وَاقْتَصَرَ فِي كِتَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَلَى الْيَزِيدِيِّ، وَاشْتُهِرَ عَنِ الْيَزِيدِيِّ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ، فَكَيْفَ يَقْتَصِرُ عَلَى السُّوسِيِّ وَالدُّورِيِّ، وَلَيْسَ لَهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَشْتَرِكُونَ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْأَخْذِ. قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ لِهَذَا سَبَبًا إِلَّا مَا قُضِيَ مِنْ نَقْصِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَنْ ظَنَّ أَنَّ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ- كَنَافِعٍ وَعَاصِمٍ- هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا. قَالَ: وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مِمَّا ثَبَتَ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ، أَلَّا يَكُونَ قُرْآنًا، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ الَّذِينَ صَنَّفُوا الْقِرَاءَاتِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ- كَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي- قَدْ ذَكَرُوا أَضْعَافَ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ، وَبِالْكُوفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ، وَبِالشَّامِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَبِمَكَّةَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبِالْمَدِينَةِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِمِائَةِ أَثْبَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ اسْمَ الْكِسَائِيَّ وَحَذَفَ يَعْقُوبَ. قَالَ: وَالسَّبَبُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّبْعَةِ- مَعَ أَنَّ فِي أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُمْ قَدْرًا أَوْ مِثْلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ- أَنَّ الرُّوَاةَ عَنِ الْأَئِمَّةِ كَانُوا كَثِيرًا جِدًا، فَلَمَّا تَقَاصَرَتِ الْهِمَمُ اقْتَصَرُوا مِمَّا يُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ عَلَى مَا يَسْهُلُ حِفْظُهُ وَتَنْضَبِطُ الْقِرَاءَةُ بِهِ فَنَظَرُوا إِلَى مَنِ اشْتُهِرَ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ فِي مُلَازَمَةِ الْقِرَاءَةِ بِهِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَخْذِ عَنْهُ، فَأَفْرَدُوا مِنْ كُلِّ مِصْرٍ إِمَامًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَعَ ذَلِكَ نَقْلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَلَا الْقِرَاءَةَ بِهِ، كَقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمَكِّيُّ- قَبْلَ ابْنِ مُجَاهِدٍ- كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةٍ، اخْتَارَ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ إِمَامًا؛ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي أَرْسَلَهَا عُثْمَانُ كَانَتْ خَمْسَةً إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ؛ وَيُقَالُ إِنَّهُ وَجَّهَ بِسَبْعَةٍ: هَذِهِ الْخَمْسَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الْيَمَنِ، وَمُصْحَفًا إِلَى الْبَحْرَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُسْمَعْ لِهَذَيْنِ الْمُصْحَفَيْنِ خَبَرٌ، وَأَرَادَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُهُ مُرَاعَاةَ عَدَدِ الْمَصَاحِفِ اسْتَبْدَلُوا مِنْ غَيْرِ الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَنِ قَارِئَيْنِ كَمُلَ بِهِمَا الْعَدَدُ، فَصَادَفَ ذَلِكَ مُوَافَقَةَ الْعَدَدِ الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ بِهِ فَوَقَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِطْنَةٌ، فَظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ. وَالْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ صِحَّةُ السَّنَدِ فِي السَّمَاعِ، وَاسْتِقَامَةُ الْوَجْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمُوَافَقَةُ الرَّسْمِ. وَأَصَحُّ الْقِرَاءَاتِ سَنَدًا الْقُرْآن الْكَرِيم نَافِعٌ وَعَاصِمٌ، وَأَفْصَحُهَا أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْقَرَّابُ فِي الشَّافِي: التَّمَسُّكُ بِقِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَانْتَشَرَ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصَةِ، وَمَتَى فُقِدَ شَرْطٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ الشَّاذُّ. وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَنْ ظَنَّ انْحِصَارَ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي مِثْلِ مَا فِي التَّيْسِيرِ وَ الشَّاطِبِيَّةِ وَآخِرُ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: قَالَ الْأَصْحَابُ: تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ حُكْمهَا، وَلَا تَجُوزُ بِالشَّاذِّ، وَظَاهِرُ هَذَا يُوهِمُ أَنَّ غَيْرَ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الشَّوَاذِّ، وَقَدْ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَأَبِي جَعْفَرٍ مَعَ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَارِجَ عَنِ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ الْقُرْآن الْكَرِيم: مِنْهُ مَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَف: فَهَذَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وَمِنْهُ مَا لَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَف: وَلَمْ تَشْتَهِرِ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَهَذَا يَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ أَيْضًا. وَمِنْهُ مَا اشْتَهَرَ، عَنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْقِرَاءَةُ بِهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: فَهَذَا لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَالْبَغَوِيُّ أَوْلَى مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُقْرِئٌ فَقِيهٌ جَامِعٌ لِلْعُلُومِ. قَالَ: وَهَكَذَا التَّفْصِيلُ فِي شَوَاذِّ السَّبْعَةِ فَإِنَّ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا شَاذًّا. انْتَهَى. وَقَالَ وَلَدُهُ فِي مَنْعِ الْمَوَانِعِ: إِنَّمَا قُلْنَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَالسَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ، ثُمَّ قُلْنَا فِي الشَّاذِّ وَالصَّحِيح: إِنَّهُ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَلَمْ نَقُلْ: وَالْعَشْرُ مُتَوَاتِرَةٌ؛ لِأَنَّ السَّبْعَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَوَاتُرِهَا فَذَكَرْنَا أَوَّلًا مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ عَطَفْنَا عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْخِلَافِ. قَالَ: عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلَ بِهِ عَمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ لَا تُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَبِي يُشَدِّدُ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهَا، وَاسْتَأْذَنَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَرَّةً فِي إِقْرَاءِ السَّبْعِ، فَقَالَ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَقْرَأَ الْعَشْرَ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ سَأَلَهُ ابْنُ الْجَزَرِيّ: الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الشَّاطِبِيُّ، وَالثُّلَاثُ- الَّتِي هِيَ: قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ- مُتَوَاتِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ حَرْفٍ انْفَرَدَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَة: أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُكَابِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ.
بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ يَظْهَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَحْكَامِ الْقُرْآن الْكَرِيم: وَلِهَذَا بَنَى الْفُقَهَاءُ نَقْضَ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ وَعَدَمِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِي لَمَسْتُمُ وَ{لَامَسْتُمُ} [النِّسَاء: 43]. وَجَوَازَ وَطْءِ الْحَائِضِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ قَبْلَ الْغُسْلِ وَعَدَمِهِ، عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي {يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَة: 222] وَقَدْ حَكَوْا خِلَافًا غَرِيبًا فِي الْآيَةِ، إِذَا قُرِئَتْ بِقِرَائَتَيْنِ، فَحَكَى أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي كِتَابِ [الْبُسْتَانِ] قَوْلَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَالَ بِهِمَا جَمِيعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَالَ بِقِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَذِنَ أَنْ نَقْرَأَ بِقِرَاءَتَيْنِ. ثُمَّ اخْتَارَ تَوَسُّطًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ تَفْسِيرٌ يُغَايِرُ الْآخَرَ فَقَدْ قَالَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَتَصِيرُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ، مِثْلُ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُمَا وَاحِدًا كَـ وَ{الْبُيُوتَ} وَ{الْبِيُوتَ} [الْبَقَرَة: 189] فَإِنَّمَا قَالَ بِأَحَدِهِمَا، وَأَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِهِمَا لِكُلِّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَا تَعَوَّدَ لِسَانُهُمْ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قُلْتُمْ إِنَّهُ قَالَ بِإِحْدَاهُمَا فَأَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ هِيَ؟. قُلْنَا: الَّتِي بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَتَنَوُّعِهَا فَوَائِدٌ الْقُرْآن الْكَرِيم: مِنْهَا التَّهْوِينُ وَالتَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ. وَمِنْهَا إِظْهَارُ فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، إِذْ لَمْ يَنْزِلُ كِتَابُ غَيْرِهِمْ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَمِنْهَا: إِعْظَامُ أَجْرِهَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُفْرِغُونَ جُهْدَهُمْ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ وَضَبْطِهِ لَفْظَةً لَفْظَةً، حَتَّى مَقَادِيرِ الْمَدَّاتِ وَتَفَاوُتِ الْإِمَالَاتِ، ثُمَّ فِي تَتَبُّعِ مَعَانِي ذَلِكَ وَاسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ دَلَالَةِ كُلِّ لَفْظٍ، وَإِمْعَانِهِمُ الْكَشْفَ عَنِ التَّوْجِيهِ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّرْجِيحِ. وَمِنْهَا: إِظْهَارُ سِرِّ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَصِيَانَتُهُ لَهُ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالِاخْتِلَافِ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْكَثِيرَةِ. وَمِنْهَا: الْمُبَالَغَةُ فِي إِعْجَازِهِ بِإِيجَازِهِ، إِذْ تَنَوُّعُ الْقِرَاءَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْآيَاتِ، وَلَوْ جُعِلَتْ دَلَالَةُ كُلِّ لَفْظٍ آيَةً عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَخْفَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} [الْمَائِدَة: 6] مُنَزَّلًا لِغَسْلِ الرِّجْلِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، لَكِنْ بِاخْتِلَافِ إِعْرَابِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ الْقِرَاءَاتِ يُبَيِّنُ مَا لَعَلَّهُ مُجْمَلٌ فِي الْقِرَاءَاتِ الْأُخْرَى فَقِرَاءَةُ يَطَّهَّرْنَ بِالتَّشْدِيدِ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَقِرَاءَةُ (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِرَاءَةِ {فَاسْعَوْا} [الْجُمُعَة: 9] الذَّهَابُ لَا الْمَشْيُ السَّرِيعُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: الْمَقْصِدُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَبْيِينُ مَعَانِيهَا الْقُرْآن الْكَرِيم، كَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ: (وَالْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ). وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا). وَقِرَاءَةِ جَابِرٍ: (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قَالَ: فَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَمَا شَاكَلَهَا قَدْ صَارَتْ مُفَسِّرَةً لِلْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنِ التَّابِعِينَ فِي التَّفْسِيرِ، فَيُسْتَحْسَنُ فَكَيْفَ إِذَا رُوِيَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ صَارَ فِي نَفْسِ الْقِرَاءَةِ! فَهُوَ أَكْثَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَأَقْوَى، فَأَدْنَى مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَقَدِ اعْتَنَيْتُ فِي كِتَابِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ بِبَيَانِ كُلِّ قِرَاءَةٍ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ.
اخْتُلِفَ فِي الْعَمَلِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ الْقُرْآن الْكَرِيم. فَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَتَبِعَهُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ وَلَمْ يَثْبُتْ. وَذَكَرَ الْقَاضِيَان: أَبُو الطَّيِّبِ وَالْحُسَيْنُ وَالرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ الْعَمَلَ بِهَا، تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْآحَادِ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. وَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى قَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَاحْتَجَّ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَتِهِ (مُتَتَابِعَاتٍ)، وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُنَا لِثُبُوتِ نَسْخِهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
مِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ الْقُرْآن الْكَرِيم؛ وَقَدِ اعْتَنَى بِهِ الْأَئِمَّةُ وَأَفْرَدُوا فِيهِ كُتُبًا، مِنْهَا الْحُجَّةُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَ الْكَشْفُ لِمَكِّيٍّ وَ الْهِدَايَةُ لِلْمَهْدَوِيِّ، وَ الْمُحْتَسَبُ فِي تَوْجِيهِ الشَّوَاذِّ لِابْنِ جِنِّيٍّ. قَالَ الْكَوَاشِيُّ: فَائِدَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى حَسَبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، أَوْ مُرَجِّحًا إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تُرَجَّحُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَرْجِيحًا يَكَادُ يُسْقِطُهَا؛ وَهَذَا غَيْرُ مَرَضِيٍّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَوَاتِرٌ. وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ، عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابَانِ فِي الْقِرَاءَاتِ لَمْ أُفَضِّلْ إِعْرَابًا عَلَى إِعْرَابٍ، فَإِذَا خَرَجْتُ إِلَى كَلَامِ النَّاسِ فَضَّلْتُ الْأَقْوَى. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: السَّلَامَةُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ إِذَا صَحَّتِ الْقِرَاءَتَانِ أَلَّا يُقَالَ: إِحْدَاهُمَا أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْثَمُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ الصَّحَابَةِ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُونَ مِنَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِرَاءَةِ {مَالِكِ} وَ مَلِكَ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ بَالَغَ إِلَى حَدٍّ يَكَادُ يُسْقِطُ وَجْهَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَلَيْسَ هَذَا بِمَحْمُودٍ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِرَاءَتَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَوْجِيهُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ أَقْوَى فِي الصِّنَاعَةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَشْهُورَةِ. خَاتِمَةٌ: قَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقُولُوا: قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ؛ وَقِرَاءَةُ سَالِمٍ، وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَقِرَاءَةَ زَيْدٍ، بَلْ يُقَالُ: فُلَانٌ كَانَ يَقْرَأُ بِوَجْهِ كَذَا، وَفُلَانٌ كَانَ يَقْرَأُ بِوَجْهِ كَذَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقٌ، مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَالزُّجَاجُ، وَالدَّانِيُّ، وَالْعُمَانِيُّ، وَالسَّجَاوَنْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ، بِهِ يُعْرَفُ كَيْفَ أَدَاءُ الْقِرَاءَةِ. وَالْأَصْلُ فِيه: مَا أَخْرَجَهُ النَّحَّاسُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الزُّرَقِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا تَتَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ الْيَوْمَ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، مَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْأَوْقَافَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: (لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ثَابِتٌ. قُلْتُ: أَخْرَجَ هَذَا الْأَثَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَعَنْ عَلَيٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 4] قَالَ: التَّرْتِيلُ: تَجْوِيدُ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةُ الْوُقُوفِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِ. وَقَالَ النِّكْزَاوِيُّ: بَابُ الْوَقْفِ عَظِيمُ الْقَدْرِ، جَلِيلُ الْخَطَرِ فَوَائِد مُعَرَّفَة الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ فَى الْقُرْآن؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَلَا اسْتِنْبَاطُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْفَوَاصِلِ. وَفِي النَّشْرِ لِابْنِ الْجَزَرِيّ: لَمَّا لَمْ يُمَكَّنِ الْقَارِئُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ أَوِ الْقِصَّةَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجُزِ التَّنَفُّسُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ حَالَةَ الْوَصْلِ، بَلْ ذَلِكَ كَالتَّنَفُّسِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ اخْتِيَارُ وَقْفَةٍ لِلتَّنَفُّسِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَتَعَيَّنَ ارْتِضَاءُ ابْتِدَاءٍ بَعْدَهُ، وَيَتَحَتَّمُ أَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ، إِذْ بِذَلِكَ يَظْهَرُ الْإِعْجَازُ، وَيَحْصُلُ الْقَصْدُ، وَلِذَلِكَ حَضَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَصَحَّ- بَلْ تَوَاتَرَ- عِنْدَنَا تَعَلُّمُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَأَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَحَدُ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ، وَصَاحِبِهِ الْإِمَامِ نَافِعٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَعَاصِمٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَنُصُوصُهُمْ عَلَيْهِ مَشْهُورَةٌ فِي الْكُتُبِ. وَمِنْ ثَمَّ اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَفِ عَلَى الْمُجِيزِ أَنْ لَا يُجِيزَ أَحَدًا إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ الْوَقْفَ وَالِابْتِدَاءَ. وَصَحَّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَن: 26- 27]. قُلْتُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
اصْطَلَحَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ لِأَنْوَاعِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ أَسْمَاءً، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: الْوَقْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: تَامٌّ، وَحَسَنٌ، وَقَبِيحٌ: فَالتَّامُّ: الَّذِي يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَقَوْلِه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5] وَقَوْلِه: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الْبَقَرَة: 6]. وَالْحَسَنُ مَنْ أُنَوِّعُ الْوَقْف في الْقُرْآن: هُوَ الَّذِي يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ كَقَوْلِه: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِـ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] لَا يَحْسُنُ لِكَوْنِهِ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ. وَالْقَبِيحُ مِنِ أَنواع الْوَقْف في الْقُرْآن: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِتَامٍّ وَلَا حَسَنٍ كَالْوَقْفِ عَلَى بِسْمِ مِنْ قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ. قَالَ: وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَلَا الْمَنْعُوتِ دُونَ نَعْتِهِ، وَلَا الرَّافِعِ دُونَ مَرْفُوعِهِ وَعَكْسِهِ، وَلَا النَّاصِبِ دُونَ مَنْصُوبِهِ وَعَكْسِهِ، وَلَا الْمُؤَكَّدِ دُونَ تَوْكِيدِهِ، وَلَا الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا الْبَدَلِ دُونَ مُبْدَلِهِ، وَلَا (إِنَّ) أَوْ (كَانَ) أَوْ (ظَنَّ) وَأَخَوَاتِهَا دُونَ اسْمِهَا، وَلَا اسْمِهَا دُونَ خَبَرِهَا، وَلَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا الْمَوْصُولِ دُونَ صِلَتِهِ اسْمِيًّا أَوْ حَرْفِيًّا، وَلَا الْفِعْلِ دُونَ مَصْدَرِهِ، وَلَا الْحَرْفِ دُونَ مُتَعَلَّقِهِ، وَلَا شَرْطٍ دُونَ جَزَائِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَقْفُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: تَامٍّ مُخْتَارٍ، وَكَافٍ جَائِزٍ، وَحَسَنٍ مَفْهُومٍ، وَقَبِيحٍ مَتْرُوكٍ. فَالتَّامُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَقْفِ فِي الْقُرْآن: هُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا بَعْدَهُ، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ؛ وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ غَالِبًا كَقَوْلِه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وَقَدْ يُوجَدُ فِي أَثْنَائِهَا كَقوله: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، هُنَا التَّمَامُ؛ لِأَنَّهُ انْقَضَى كَلَامُ بِلْقِيسٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النَّمْل: 34]. وَكَذَلِكَ {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذَّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الْفُرْقَان: 29] هُنَا التَّمَامُ، لِأَنَّهُ انْقَضَى كَلَامُ الظَّالِمِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}. وَقَدْ يُوجَدُ بَعْدَهَا، كَقوله: {مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصَّافَّات: 137- 138]. هُنَا التَّمَامُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: بِالصُّبْحِ وَبِاللَّيْلِ. وَمِثْلِهِ يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا [الزُّخْرُف: 34- 35] رَأْسُ الْآيَةِ يَتَّكِئُونَ وَوَزُخْرُفًا هُوَ التَّمَامُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَآخَرِ كُلِّ قِصَّةٍ وَمَا قَبْلَ أَوَّلِهَا، وَآخَرِ كُلِّ سُورَةٍ، وَقَبْلَ: يَاءِ النِّدَاءِ، وَفِعْلِ الْأَمْرِ، وَالْقَسَمِ وَلَامِهِ، دُونَ الْقَوْلِ وَالشَّرْطِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ جَوَابُهُ، وَ(كَانَ اللَّهُ) وَ(مَا كَانَ) وَ(لَوْلَا) وَ(لَوْلَا) غَالِبُهُنَّ تَامٌّ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُنَّ قَسَمٌ أَوْ قَوْلٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَالْكَافِي: مُنْقَطِعٌ فِي اللَّفْظِ مُتَعَلِّقٌ فِي الْمَعْنَى مِنْ أَنْوَاعِ الْوَقْفِ، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ أَيْضًا، نَحْوُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23] هُنَا الْوَقْفُ وَيُبْتَدَأُ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلُّ رَأْسِ آيَةٍ بَعْدَهَا (لَامُ كَيْ) وَ(إِلَّا) بِمَعْنَى (لَكِنْ) وَ(إِنَّ) الشَّدِيدَةُ الْمَكْسُورَةُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَ(بَلْ) وَ(أَلَا) الْمُخَفَّفَةُ وَ(السِّينُ) وَ(سَوْفَ) لِلتَّهْدِيدِ، وَ(نِعْمَ) وَ(بِئْسَ) وَ(كَيْلَا) مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُنَّ قَوْلٌ أَوْ قَسَمٌ. وَالْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ نَحْوَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وَالْقَبِيحُ: هُوَ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ، كَـ {الْحَمْدُ}، وَأَقْبَحُ مِنْهُ الْوَقْفُ عَلَى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} وَيَبْتَدِئُ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [الْمَائِدَة: 17]؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُسْتَحِيلٌ بِهَذَا الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ تَعَمَّدَهُ وَقَصَدَ مَعْنَاهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَمِثْلُهُ فِي الْوَقْفِ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ} [الْبَقَرَة: 258] {فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ} [النِّسَاء: 11]. وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا الْوَقْفُ عَلَى الْمَنْفِيِّ دُونَ حَرْفِ الْإِيجَابِ مِنْ نَحْو: لَا إِلَهَ... إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19]. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ... إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الْإِسْرَاء: 105] فَإِنِ اضْطُرَّ لِأَجْلِ التَّنَفُّسِ جَازَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَبْلَهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِمَا بَعْدَهُ، وَلَا حَرَجَ. انْتَهَى. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: الْوَقْفُ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ: لَازِمٌ وَمُطْلَقٌ وَجَائِزٌ وَمُجَوَّزٌ لِوَجْهٍ وَمُرَخَّصٌ ضَرُورَةً. 1- فَاللَّازِمُ: مَا لَوْ وُصِلَ طَرَفَاهُ غُيِّرَ الْمُرَادُ نَحْوُ قَوْلِه: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَة: 8] يَلْزَمُ الْوَقْفُ هُنَا، إِذْ لَوْ وُصِلَ بِقَوْلِه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [الْبَقَرَة: 9] تُوُهِّمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَوْلِه: بِمُؤْمِنِينَ فَانْتَفَى الْخِدَاعُ عَنْهُمْ، وَتَقَرَّرَ الْإِيمَانُ خَالِصًا عَنِ الْخِدَاعِ، كَمَا تَقُولُ مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مُخَادِعٍ وَالْقَصْدُ فِي الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْخِدَاعِ بَعْدَ نَفْيِ الْإِيمَانِ. وَكَمَا فِي قَوْلِه: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} [الْبَقَرَة: 171] فَإِنَّ جُمْلَةَ (تُثِيرُ) صِفَةٌ لِـ (ذَلُولٌ) دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَيْ: لَيْسَتْ ذَلُولًا مُثِيرَةً لِلْأَرْضِ. وَنَحْوُ: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النِّسَاء: 171]، فَلَوْ وَصَلَهَا بِقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لَأَوْهَمَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِوَلَدٍ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ وَلَدٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ؛ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْوَلَدِ مُطْلَقًا. 2- وَالْمُطْلَقُ: مَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ: كَالِاسْمِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ نَحْوَ: {اللَّهُ يَجْتَبِي} [الشُّورَى: 13]. وَالْفِعْلِ الْمُسْتَأْنَفِ نَحْوَ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النُّور: 55] وَ{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [الْبَقَرَة: 142]، وَ{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطَّلَاق: 7]. وَمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ نَحْوَ: وَعْدَ اللَّهِ [النِّسَاء: 122]، سُنَّةَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 38] وَالشَّرْطِ نَحْوَ: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الْأَنْعَام: 39]. وَالِاسْتِفْهَامِ وَلَوْ مُقَدَّرًا: نَحْوَ: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا} [النِّسَاء: 88]، {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الْأَنْفَال: 67]. وَالنَّفْيِ {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الْقَصَص: 68]، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الْأَحْزَاب: 13] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ مَقُولًا لِقَوْلٍ سَابِقٍ. 3- وَالْجَائِزُ: مَا يَجُوزُ فِيهِ الْوَصْلُ وَالْفَصْلُ لِتَجَاذُبِ الْمُوَجِبَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، نَحْوُ: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [الْبَقَرَة: 4] فَإِنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَقْتَضِي الْوَصْلَ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ يَقْطَعُ النَّظْمَ؛ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: (وَيُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ). 4- وَالْمُجَوَّزُ لِوَجْهٍ: نَحْوَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [الْبَقَرَة: 86]؛ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِه: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [الْبَقَرَة: 86] تَقْتَضِي التَّسَبُّبَ وَالْجَزَاءَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْوَصْلَ، وَكَوْنُ لَفْظِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ يَجْعَلُ لِلْفَصْلِ وَجْهًا. 5- وَالْمُرَخَّصُ ضَرُورَةً: مَا لَا يَسْتَغْنِي مَا بَعْدَهُ عَمَّا قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ يُرَخَّصُ لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ وَطُولِ الْكَلَامِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْوَصْلُ بِالْعَوْدِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَفْهُومَةٌ، كَقَوْلِه: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [الْبَقَرَة: 22]؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنْزَلَ} [الْبَقَرَة: 22] لَا يَسْتَغْنِي عَنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّ فَاعِلَهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَفْهُومَةٌ. وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْه: فَكَالشَّرْطِ دُونَ جَزَائِهِ، وَالْمُبْتَدَأِ دُونَ خَبَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَقْفُ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَضْرُبٍ: تَامٍّ، وَشَبِيهٍ بِهِ، وَنَاقِصٍ، وَشَبِيهٍ بِهِ، وَحَسَنٍ وَشَبِيهٍ بِهِ، وَقَبِيحٍ، وَشَبِيهٍ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: أَكْثَرُ مَا ذَكَرَ النَّاسُ فِي أَقْسَامِ الْوَقْفِ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلَا مُنْحَصِرٍ وَأَقْرَبُ مَا قُلْتُهُ فِي ضَبْطِه: أَنَّ الْوَقْفَ يَنْقَسِمُ إِلَى اخْتِيَارِيٍّ وَاضْطِرَارِيٍّ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا، فَإِنْ تَمَّ كَانَ اخْتِيَارِيًّا، وَكَوْنُهُ تَامًّا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَلَّا يَكُونَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا بَعْدَهُ الْبَتَّةَ- أَيْ: لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى- فَهُوَ الْوَقْفُ الْمُسَمَّى بِالتَّامِّ لِتَمَامِهِ الْمُطْلَقِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ وَيُبْدَأُ بِمَا بَعْدَهُ، ثُمَّ مَثَّلَهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي التَّامِّ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ تَامًّا فِي تَفْسِيرٍ وَإِعْرَابٍ وَقِرَاءَةٍ غَيْرُ تَامٍّ عَلَى آخَرَ مِنْ أَوْجُه الْوَقْف. نَحْوُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] تَامٌّ: إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفًا، غَيْرُ تَامٍّ: إِنْ كَانَ مَعْطُوفًا. وَنَحْوُ فَوَاتِحِ السُّوَر: الْوَقْفُ عَلَيْهَا تَامٌّ إِنْ أُعْرِبَتْ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَوْ عَكْسُهُ، أَيْ: الم هَذِهِ، أَوْ هَذِهِ الم، أَوْ مَفْعُولًا بِـ (قُلْ) مُقَدَّرًا. غَيْرُ تَامٍّ: إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا هُوَ الْخَبَرُ. وَنَحْوُ: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [الْبَقَرَة: 125] تَامٌّ عَلَى قِرَاءَةِ (وَاتَّخِذُوا) بِكَسْرِ الْخَاءِ، كَافٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ. وَنَحْوُ: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إِبْرَاهِيمَ: 1] تَامٌّ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ الِاسْمَ الْكَرِيمَ بَعْدَهَا، حَسَنٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ خَفَضَ. وَقَدْ يَتَفَاضَلُ التَّامُّ، نَحْوَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 4- 5] كِلَاهُمَا تَامٌّ؛ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَتَمُّ مِنَ الثَّانِي؛ لِاشْتِرَاكِ الثَّانِي فِيمَا بَعْدَهُ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ شَبِيهًا بِالتَّامِّ. وَمِنْهُ مَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ لِبَيَانِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَوْجِهِ الْوَقْفِ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ السَّجَاوَنْدِيُّ بِاللَّازِمِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَطْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَافِي لِلِاكْتِفَاءِ بِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَمَّا بَعْدَهُ وَاسْتِغْنَاءِ مَا بَعْدَهُ عَنْهُ كَقَوْلِه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 3] وَقوله: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [الْبَقَرَة: 4]، وَقَوْلِه: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَة: 5]. أَوْ يَتَفَاضَلُ فِي الْكِفَايَةِ كَتَفَاضُلِ التَّمَامِ مِنْ أَوْجُهِ الْوَقْفِ، نَحْوُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كَافٍ {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أَكْفَى مِنْهُ، {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [الْبَقَرَة: 10] أَكَفَى مِنْهُمَا. وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ كَافِيًا عَلَى تَفْسِيرٍ وَإِعْرَابٍ وَقِرَاءَةٍ غَيْرُ كَافٍ عَلَى آخَرَ مِنِ أوجه الْوَقْف، نَحْوُ: قَوْلِه: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [الْبَقَرَة: 102] كَافٍ إِنْ جُعِلَتْ (مَا) بَعْدَهُ نَافِيَةً، حَسَنٌ إِنَّ فُسِّرَتْ مَوْصُولَةً. {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَة: 4] كَافٍ إِنْ أُعْرِبَ مَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ عَلَى هُدًى [الْبَقَرَة: 5] حَسَنٌ إِنْ جُعِلَ خَبَرَ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَة: 3] أَوْ خَبَرَ {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ} [الْبَقَرَة: 4]. {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [الْبَقَرَة: 139] كَافٍ عَلَى قِرَاءَةِ أَمْ تَقُولُونَ [الْبَقَرَة: 140] بِالْخِطَابِ حَسَنٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْغَيْبِ. {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} كَافٍ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ (فَيَغْفِرُ) وَ(وَيُعَذِّبُ) [الْبَقَرَة: 284] حَسَنٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ. وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظ: فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحُسْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَسَنٌ مُفِيدٌ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِمَا بَعْدَهُ، لِلتَّعَلُّقِ اللَّفْظِيِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسَ آيَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي اخْتِيَارِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَدَاءِ؛ لِمَجِيئِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْآتِي. وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ حَسَنًا عَلَى تَقْدِيرٍ، وَكَافِيًا أَوْ تَامًّا عَلَى آخَرَ مِنْ أَوْجُهِ الْوَقْفِ، نَحْوُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 2] حَسَنٌ إِنْ جُعِلَ مَا بَعْدَهُ نَعْتًا، كَافٍ إِنْ جُعِلَ خَبَرًا مُقَدَّمًا، أَوْ مَفْعُولًا مُقَدَّرًا عَلَى الْقَطْعِ، تَامٌّ إِنْ جُعِلَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ: أُولَئِكَ. وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ: كَانَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ اضْطِرَارِيًّا، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَبِيحِ، لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، مِنِ انْقِطَاعِ نَفَسٍ وَنَحْوِهِ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، نَحْوَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ} [الْفَاتِحَة: 7]. وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْبَحَ مِنْ بَعْضٍ، نَحْوُ: {فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ} [النِّسَاء: 11] لِإِيهَامِهِ أَنَّهُمَا مَعَ الْبِنْتِ شُرَكَاءَ فِي النِّصْفِ. وَأَقْبَحَ مِنْهُ نَحْوَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} [الْبَقَرَة: 26]، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الْمَاعُون: 4]. {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النِّسَاء: 43] فَهَذَا حُكْمُ الْوَقْفِ اخْتِيَارِيًّا وَاضْطِرَارِيًّا. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارِيًّا؛لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْوَقْفِ تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِمُسْتَقِلٍّ بِالْمَعْنَى مُوفٍ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ فِي أَقْسَامِهِ كَأَقْسَامِ الْوَقْفِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَتَفَاوَتُ تَمَامًا وَكِفَايَةً وَحُسْنًا وَقُبْحًا، بِحَسَبِ التَّمَامِ وَعَدَمِهِ، وَفَسَادِ الْمَعْنَى وَإِحَالَتِهُ، نَحْوُ: الْوَقْفِ عَلَى: {وَمِنَ النَّاسِ} [الْبَقَرَة: 8]؛ فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ بِـ (النَّاسِ) قَبِيحٌ، وَ(آمَنَّا) تَامٌّ؛ فَلَوْ وُقِفَ عَلَى (مَنْ) كَانَ الِابْتِدَاءُ بِـ (يَقُولُ) أَحْسَنَ مِنِ ابْتِدَائِهِ بِـ (مَنْ). وَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى {خَتَمَ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 7] قَبِيحٌ، وَالِابْتِدَاءُ بِـ اللَّهُ أَقْبَحُ وَبِـ خَتَمَ كَافٍ. وَالْوَقْفُ عَلَى: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: 30] قَبِيحٌ وَالِابْتِدَاءُ بِابْنٍ أَقْبَحُ، وَبِعُزَيْرٍ، وَالْمَسِيحِ أَشَدُّ قُبْحًا. وَلَوْ وُقِفَ عَلَى {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ} [الْأَحْزَاب: 12] ضَرُورَةً كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْجَلَالَةِ قَبِيحًا، وَبِـ {وَعَدَنَا} أَقْبَحَ مِنْهُ وَبِـ {مَا} أَقْبَحَ مِنْهُمَا. وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ حَسَنًا وَالِابْتِدَاءُ بِهِ قَبِيحًا مِنْ أَوْجُه الْوَقْف نَحْوُ: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الْمُمْتَحَنَة: 1] الْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ وَالِابْتِدَاءُ بِهِ قَبِيحٌ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذْ يَصِيرُ تَحْذِيرًا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ قَبِيحًا وَالِابْتِدَاءُ جَيِّدًا مِنْ أَوْجُه الْوَقْف، نَحْوُ: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس: 52] الْوَقْفُ عَلَى {هَذَا} قَبِيحٌ لِفَصْلِهِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ، وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَرْقَدِ، وَالِابْتِدَاءُ بِهَذَا كَافٍ أَوْ تَامٌّ لِاسْتِئْنَافِهِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْجَوَازَ الْأَدَائِيَّ، وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ فِي الْقِرَاءَةِ وَيَرُوقُ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَلَا مَكْرُوهٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ تَحْرِيفَ الْقُرْآنِ وَخِلَافَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فَضْلًا، عَنْ أَنْ يَأْثَمَ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ- أَيْضًا-: لَيْسَ كُلُّ مَا يَتَعَسَّفُهُ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَوْ يَتَكَلَّفُهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ، أَوْ يَتَأَوَّلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِمَّا يَقْتَضِي وَقْفًا وَابْتِدَاءً يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَمَّدَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، بَلْ يَنْبَغِي تَحَرِّي الْمَعْنَى الْأَتَمِّ، وَالْوَقْفِ الْأَوْجَهِ؛ وَذَلِكَ نَحْوُ: الْوَقْفِ عَلَى: (وَارْحَمْنَا أَنْتَ) وَالِابْتِدَاءُ (مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا) [الْبَقَرَة: 286] عَلَى مَعْنَى النِّدَاءِ. وَنَحْوُ: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ} وَيَبْتَدِئُ {بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا} [النِّسَاء: 62]. وَنَحْوُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ} [لُقْمَانَ: 13] وَيَبْتَدِئُ: {بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ} عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. وَنَحْوُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} وَيَبْتَدِئُ {اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 81]. وَنَحْوُ: {فَلَا جُنَاحَ} وَيَبْتَدِئُ {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [الْبَقَرَة: 158] فَكُلُّهُ تَعَسُّفٌ وَتَمَحُّلٌ وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ.
الثَّالِثُ: يُغْتَفَرُ فِي طُولِ الْفَوَاصِلِ وَالْقَصَصِ وَالْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي حَالَةِ جَمْعِ الْقِرَاءَاتِ، وَقِرَاءَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّنْزِيلِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا، فَرُبَّمَا أُجِيزَ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ، وَهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ السَّجَاوَنْدِيُّ الْمُرَخَّصُ ضَرُورَةً، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِه: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [الْبَقَرَة: 22]. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَالْأَحْسَنُ تَمْثِيلُهُ بِنَحْو: {قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَة: 177]، وَبِنَحْو: (وَالنَّبِيِّينَ) [الْبَقَرَة: 177] وَبِنَحْو: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَة: 177]، وَبِنَحْو: عَاهَدُوا [الْبَقَرَة: 177] وَبِنَحْو: كُلٍّ مِنْ فَوَاصِل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: النَّحْوِيُّونَ يَكْرَهُونَ الْوَقْفَ النَّاقِصَ فِي التَّنْزِيلِ مَعَ إِمْكَانِ التَّامِّ، فَإِنْ طَالَ الْكَلَامُ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ وَقْفٌ تَامٌّ، حَسُنَ الْأَخْذُ بِالنَّاقِصِ، كَقَوْلِه: (قُلْ أُوحِيَ) إِلَى قَوْلِه: {فَلَا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} إِنْ كَسَرْتَ بَعْدَهُ إِنْ، وَإِنْ فَتَحْتَهَا فَإِلَى قَوْلِه: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الْجِنّ: 1- 19]. قَالَ: وَيُحَسِّنُ الْوَقْفَ النَّاقِصَ أُمُورٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِضَرْبٍ مِنَ الْبَيَانِ، كَقَوْلِه: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} فَإِنَّ الْوَقْفَ هُنَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَيِّمًا [الْكَهْف: 1- 2] مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَأَنَّهُ حَالٌ فِي نِيَّةِ التَّقْدِيمِ. وَكَقَوْلِه: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النِّسَاء: 23] لِيَفْصِلَ بِهِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ النَّسَبِيِّ وَالسَّبَبِيِّ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوَقْفِ، نَحْوُ: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الْحَاقَّة: 25- 26]. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَكَمَا اغْتُفِرَ الْوَقْفُ لِمَا ذُكِرَ، قَدْ لَا يُغْتَفَرُ وَلَا يَحْسُنُ فِيمَا قَصُرَ مِنَ الْجُمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ التَّعَلُّقُ لَفْظِيًّا، نَحْوُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}، {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [الْبَقَرَة: 87] لِقُرْبِ الْوَقْفِ عَلَى (بِالرُّسُلِ) [الْبَقَرَة: 87] وَعَلَى (الْقُدُسِ) [الْبَقَرَة: 87]. وَكَذَا يُرَاعَى فِي الْوَقْفِ الِازْدِوَاجُ، فَيُوصِلُ مَا يُوقَفُ عَلَى نَظِيرِهِ مِمَّا يُوجَدُ التَّمَامُ عَلَيْهِ وَانْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ بِمَا بَعْدَهُ لَفْظًا، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ازْدِوَاجِهِ، نَحْوُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [الْبَقَرَة: 134] وَنَحْوُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 203] مَعَ {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. وَنَحْوُ: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} مَعَ {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فَاطِرٍ: 13] وَنَحْوُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} مَعَ {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فُصِّلَتْ: 46].
الرَّابِعُ: قَدْ يُجِيزُونَ الْوَقْفَ عَلَى حَرْفٍ وَعَلَى آخَرَ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْوَقْفَيْنِ مُرَاقَبَةٌ عَلَى التَّضَادِّ فَإِذَا وُقِفَ عَلَى أَحَدِهِمَا امْتَنَعَ الْوَقْفُ عَلَى الْآخَرِ كَمَنْ أَجَازَ الْوَقْفَ عَلَى: {لَا رَيْبَ} فَإِنَّهُ لَا يُجِيزُهُ عَلَى {فِيهِ} وَالَّذِي يُجِيزُهُ عَلَى {فِيهِ} لَا يُجِيزُهُ عَلَى {لَا رَيْبَ} [الْبَقَرَة: 2]. وَكَالْوَقْفِ عَلَى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 282] مُرَاقَبَةً. وَالْوَقْفِ عَلَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] مُرَاقَبَةً. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَأَوَّلُ مَنْ نَبَّهَ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ فِي الْوَقْفِ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ، أَخَذَهُ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْعَرُوضِ.
الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَا يَقُومُ بِالتَّمَامِ فِي الْوَقْفِ إِلَّا نَحْوِيٌّ عَالِمٌ بِالْقِرَاءَاتِ، عَالَمٌ بِالتَّفْسِيرِ وَالْقَصَصِ وَتَخْلِيصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، عَالِمٌ بِاللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَذَا عِلْمُ الْفِقْهِ، وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِه: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النُّور: 4] وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ النِّكْزَاوِيُّ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الْوَقْف: لَا بُدَّ لِلْقَارِئِ مِنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَوَاضِعَ يَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى مَذْهَبِ آخَرِينَ. فَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى عِلْمِ النَّحْوِ وَتَقْدِيرَاتِه: فَلِأَنَّ مَنْ جَعَلَ {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجّ: 78] مَنْصُوبًا عَلَى الْإِغْرَاءِ وَقَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَمَّا إِذَا عَمِلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ فَلَا. وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى الْقِرَاءَات: فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ قَدْ يَكُونُ تَامًّا عَلَى قِرَاءَةٍ غَيْرَ تَامٍّ عَلَى أُخْرَى. وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى التَّفْسِيرِ فَلِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الْمَائِدَة: 26] كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَإِذَا وَقَفَ عَلَى (عَلَيْهِمْ) كَانَ الْمَعْنَى إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَأَنَّ التِّيهَ أَرْبَعِينَ؛ فَرَجَعَ هَذَا إِلَى التَّفْسِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْوَقْفَ- يَكُونُ- تَامًّا عَلَى تَفْسِيرٍ وَإِعْرَابٍ، غَيْرُ تَامٍّ عَلَى تَفْسِيرٍ وَإِعْرَابٍ آخَرَ. وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى الْمَعْنَى: فَضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَقَاطِعِ الْكَلَامِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ، كَقَوْلِه: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} [يُونُسَ: 65] فَقَوْلُهُ: (إِنَّ الْعِزَّةَ) اسْتِئْنَافٌ، لَا مَقُولُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} وَيَبْتَدِئُ (أَنْتُمَا) [الْقَصَص: 35]. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّين: الْأَحْسَنُ الْوَقْفُ عَلَى إِلَيْكُمَا؛ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْغَلَبَةِ إِلَى الْآيَاتِ أَوْلَى مِنْ إِضَافَةِ عَدَمِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ الْعَصَا وَصِفَاتُهَا، وَقَدْ غَلَبُوا بِهَا السَّحَرَةَ، وَلَمْ تَمْنَعْ عَنْهُمْ فِرْعَوْنَ. وَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وَيَبْتَدِئُ (وَهَمَّ بِهَا) [يُوسُفَ: 24] عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لَهَمَّ بِهَا، فَقُدِّمَ جَوَابُ لَوْلَا وَيَكُونُ هَمُّهُ مُنْتَفِيًا، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْنَى أَصْلٌ فِي ذَلِكَ كَبِيرٌ.
السَّادِسُ: حَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ بِالتَّامِّ وَالنَّاقِصِ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَتَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَمُتَعَمِّدُ الْوُقُوفِ عَلَى نَحْوِهِ مُبْتَدِعٌ؛ قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، وَهُوَ كَاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ فَكُلُّهُ قُرْآنٌ، وَبَعْضُهُ قُرْآنٌ، وَكُلُّهُ تَامٌّ حَسَنٌ، وَبَعْضُهُ تَامٌّ حَسَنٌ.
السَّابِعُ: لِأَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَذَاهِبٌ فِي الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ؛ فَنَافِعٌ: كَانَ يُرَاعِي تَجَانُسَهُمَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ: حَيْثُ يَنْقَطِعُ النَّفَسُ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ كَثِيرٍ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7]. وَمَا يُشْعِرُكُمْ [الْأَنْعَام: 109]. {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْل: 103] فَتَعَمَّدَ الْوَقْفَ عَلَيْهَا. وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ: حَيْثُ تَمَّ الْكَلَامُ. وَأَبُو عَمْرٍو يَتَعَمَّدُ رُءُوسَ الْآيِ، وَيَقُولُ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيٌّ فِي الشُّعَبِ وَآخَرُونَ: الْأَفْضَلُ الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيَاتِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا اتِّبَاعًا لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ قَطَّعَ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، يَقُولُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثُمَّ يَقِفُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثُمَّ يَقِفُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثُمَّ يَقِفُ.
الثَّامِنُ: الْوَقْفُ وَالْقَطْعُ وَالسَّكْتُ عِبَارَاتٌ يُطْلِقُهَا الْمُتَقَدِّمُونَ غَالِبًا مُرَادًا بِهَا الْوَقْفُ. وَالْمُتَأَخِّرُونَ فَرَّقُوا فَقَالُوا: الْقَطْعُ: عِبَارَةٌ، عَنْ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ رَأْسًا، فَهُوَ كَالِانْتِهَاءِ، فَالْقَارِئُ بِهِ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الْقِرَاءَةِ، وَالْمُنْتَقِلِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَعَاذُ بَعْدَهُ لِلْقِرَاءَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى رَأْسِ آيَةٍ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ الْآيِ فِي نَفْسِهَا مَقَاطِعٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِه: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقْرَءُوا بَعْضَ الْآيَاتِ وَيَدَعُوا بَعْضَهَا. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَقَوْلُهُ: (كَانُوا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ. وَالْوَقْفُ: عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الصَّوْتِ عَنِ الْكَلِمَةِ زَمَنًا تَعْرِيفُ الْوَقْفِ وَمَعْنَاهُ يُتَنَفَّسُ فِيهِ عَادَةً، بِنِيَّةِ اسْتِئْنَافِ الْقِرَاءَةِ لَا بِنِيَّةِ الْإِعْرَاضِ، وَيَكُونُ فِي رُءُوسِ الْآيِ وَأَوْسَاطِهَا وَلَا يَأْتِي فِي وَسَطِ الْكَلِمَةِ، وَلَا فِيمَا اتَّصَلَ رَسْمًا. وَالسَّكْتُ: عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الصَّوْتِ زَمَنًا، هُوَ دُونَ زَمَنِ الْوَقْفِ عَادَةً، مِنْ غَيْرِ تَنَفُّسٍ. وَاخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْأَئِمَّةِ فِي التَّأْدِيَةِ عَنْهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى طُولِهِ وَقِصَرِه: فَعَنْ حَمْزَةَ فِي السَّكْتِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ سَكْتَةٌ يَسِيرَةٌ. وَقَالَ الْأُشْنَانِيُّ: قَصِيرَةٌ، وَعَنِ الْكِسَائِيّ: سَكْتَةٌ مُخْتَلَسَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ غَلْبُونَ: وَقْفَةٌ يَسِيرَةٌ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: وَقْفَةٌ خَفِيفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: وُقَيْفَةٌ. وَعَنْ قُتَيْبَةَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ نَفَسٍ. وَقَالَ الدَّانِيُّ: سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ. وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: قَطْعُ الصَّوْتِ زَمَنًا قَلِيلًا أَقْصَرُ مِنْ زَمَنِ إِخْرَاجِ النَّفَسِ لِأَنَّهُ إِنْ طَالَ صَارَ وَقْفًا. فِي عِبَارَاتٍ أُخَرَ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالسَّمَاعِ وَالنَّقْلِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ، لِمَعْنًى مَقْصُودٍ بِذَاتِهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي رُءُوسِ الْآيِ مُطْلَقًا حَالَةَ الْوَصْلِ، لِقَصْدِ الْبَيَانِ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَلَى ذَلِكَ.
1- كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ (الَّذِي) وَ(الَّذِينَ): يَجُوزُ فِيهِ الْوَصْلُ بِمَا قَبْلَهُ نَعْتًا، وَالْقَطْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، إِلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ} فِي [الْبَقَرَة: 121]. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} فِيهَا [الْبَقَرَة: 146] وَفِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا [20]. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} فِي [الْبَقَرَة: 275]. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} فِي بَرَاءَةٌ [20]. {الَّذِينَ يُحْشُرُونَ} فِي الْفُرْقَانِ [34]. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} فِي غَافِرٍ: [7]. وَفِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِه: {الَّذِي يُوَسْوِسُ} [النَّاس: 5]. يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْقَارِئُ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَيَبْتَدِئَ بِـ (الَّذِي) إِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْقَطْعِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَعَلْتَهُ صِفَةً. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الصِّفَةُ إِنْ كَانَتْ لِلِاخْتِصَاصِ امْتَنَعَ الْوَقْفُ عَلَى مَوْصُوفِهَا دُونَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَدْحِ جَازَ لِأَنَّ عَامِلَهَا فِي الْمَدْحِ غَيْرُ عَامِلِ الْمَوْصُوفِ. 2- الْوَقْفُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ دُونَ الْمُسْتَثْنَى: إِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِيهِ مَذَاهِبُ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُبْتَدَأٍ حُذِفَ خَبَرُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا: لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مَا قَبْلَهُ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدِ اسْتِعْمَالُ (إِلَّا) وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِلَّا مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، وَمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مُشْعِرٌ بِتَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْمَعْنَى، إِذْ قَوْلُكَ: (مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ) هُوَ الَّذِي صَحَّحَ (إِلَّا الْحِمَارَ) وَلَوْ قُلْتَ: (إِلَّا الْحِمَارَ) عَلَى انْفِرَادِهِ كَانَ خَطَأً. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ: فَإِنْ صَرَّحَ بِالْخَبَرِ جَازَ؛ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ وَاسْتِغْنَائِهَا عَمَّا قَبْلَهَا، وَإِنْ لِمْ يُصَرَّحْ بِهِ فَلَا؛ لِافْتِقَارِهَا. قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ. 3- الْوَقْفُ عَلَى الْجُمْلَةِ النِّدَائِيَّةِ جَائِزٌ: كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى تَتَعَلَّقُ بِهَا. 4- كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَوْل: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ حِكَايَتُهُ. قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. 5- (كَلَّا) فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا: مِنْهَا سَبْعَةٌ لِلرَّدْعِ اتِّفَاقًا، فَيُوقَفُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ: (عَهْدًا كَلَّا) فِي مَرْيَمَ [78- 79]. (عِزًّا كَلَّا) فِي مَرْيَمَ [81- 82]. (أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا) فِي [الشُّعَرَاء: 14- 125]. (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا) فِي [الشُّعَرَاء: 61- 62] (شُرَكَاءَ كَلَّا) فِي [سَبَأٍ: 27]. (أَنْ أَزِيدَ كَلَّا) فِي [الْمُدَّثِّر: 15- 16]. (أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا) فِي [الْقِيَامَة: 10- 11]. وَالْبَاقِي: مِنْهَا مَا هُوَ بِمَعْنَى حَقًّا قَطْعًا، فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ فِيهِ عَلَيْهَا عَلَى مَعْنَى الرَّدْعِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ: وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا عَلَى مَعْنَى (حَقًّا) وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا: اثْنَانِ فِي مَرْيَمَ وَفِي (قَدْ أَفْلَحَ) وَسَبَأٍ. وَاثْنَانِ فِي الْمَعَارِجِ، وَاثْنَانِ فِي الْمُدَّثِّر: (أَنْ أَزْيَدَ كَلَّا) [15- 16]. (مُنَشَّرَةً كَلَّا) [52- 53]. وَفِي الْمُطَفِّفِينَ: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا} [13- 14] وَفِي الْفَجْر: (أَهَانَنِ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) [16- 17] وَفِي الْهُمَزَة: (أَخْلَدَهُ كَلَّا) [3- 4]. الثَّانِي: مَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَهُوَ مَوْضِعَان: فِي الشُّعَرَاءِ {أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا} [14- 15]. {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا} [61- 62]. الثَّالِثُ: مَا لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا: بَلْ تُوصَلُ بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ مَوْضِعَانِ فِي عَمَّ وَالتَّكَاثُر: {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النَّبَأ: 5]، {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التَّكَاثُر: 4]. الرَّابِعُ: مَا لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ يُبْتَدَأُ بِهَا: وَهِيَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْبَاقِيَةُ. 6- (بَلَى) فِي الْقُرْآنِ فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا إِجْمَاعًا؛ لِتَعَلُّقِ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا: وَهِيَ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ: فِي الْأَنْعَامِ [30]: {بَلَى وَرَبِّنَا}. فِي النَّحْل: [38]، {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. فِي سَبَأٍ: [3]، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}. فِي الزُّمَرِ [59]: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ}. فِي الْأَحْقَاف: [34]، {بَلَى وَرَبِّنَا}. فِي التَّغَابُنِ [76]: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي}. فِي الْقِيَامَة: [4]، {بَلَى قَادِرِينَ}. الثَّانِي: مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالِاخْتِيَارُ الْمَنْعُ: وَذَلِكَ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ: فِي الْبَقَرَةِ [26]: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. فِي الزُّمَر: [71]، {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ}. فِي الزُّخْرُف: [80]، {بَلَى وَرُسُلُنَا}. فِي الْحَدِيد: [14]، {قَالُوا بَلَى}. فِي تَبَارَكَ: [9]، {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا}. الثَّالِثُ: مَا الِاخْتِيَارُ جَوَازُ الْوَقْفِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ. 7- نَعَمْ فِي الْقُرْآنِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْأَعْرَافِ [44]: {قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ}. وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهَا، إِذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ. وَالْبَوَاقِي فِيهَا، وَفِي الشُّعَرَاءِ [42]: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذَنْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. وَفِي الصَّافَّاتِ [18]: {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}. وَالْمُخْتَارُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا لِتَعَلُّقِ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهِ بِالْقَوْلِ.
ضَابِطٌ: قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي النَّشْرِ: كُلُّ مَا أَجَازُوا الْوَقْفَ عَلَيْهِ أَجَازُوا الِابْتِدَاءَ بِمَا بَعْدَهُ.
لِلْوَقْفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْجُهٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ مِنْهَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ تِسْعَةٌ: السُّكُونُ، وَالرَّوْمُ، وَالْإِشْمَامُ، وَالْإِبْدَالُ، وَالنَّقْلُ، وَالْإِدْغَامُ، وَالْحَذْفُ، وَالْإِثْبَاتُ، وَالْإِلْحَاقُ. فَأَمَّا السُّكُونُ: فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْكَلِمَةِ الْمُحَرَّكَةِ وَصْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَقْف: التَّرْكُ وَالْقَطْعُ، وَلِأَنَّهُ ضِدُّ الِابْتِدَاءِ فَكَمَا لَا يُبْتَدَأُ بِسَاكِنٍ لَا يُوقَفُ عَلَى مُتَحَرِّكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ. وَأَمَّا الرَّوْمُ: فَهُوَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ عِبَارَةٌ، عَنِ النُّطْقِ بِبَعْضِ الْحَرَكَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَضْعِيفُ الصَّوْتِ بِالْحَرَكَةِ حَتَّى يَذْهَبَ مُعْظَمُهَا. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ. وَيَخْتَصُّ بِالْمَرْفُوعِ وَالْمَجْزُومِ وَالْمَضْمُومِ وَالْمَكْسُورِ. بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ خَفِيفَةٌ، إِذَا خَرَجَ بَعْضُهَا خَرَجَ سَائِرُهَا، فَلَا تَقْبَلُ التَّبْعِيضَ. وَأَمَّا الْإِشْمَامُ: فَهُوَ عِبَارَةٌ، عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ تَصْوِيتٍ. وَقِيلَ: أَنْ تَجْعَلَ شَفَتَيْكَ عَلَى صُورَتِهَا. وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ. وَيَخْتَصُّ بِالضَّمَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ أَمْ بِنَاءٍ إِذَا كَانَتْ لَازِمَةً، أَمَّا الْعَارِضَةُ، وَمِيمُ الْجَمْعِ عِنْدَ مَنْ ضَمَّ، وَهَاءُ التَّأْنِيث: فَلَا رَوْمَ فِي ذَلِكَ وَلَا إِشْمَامَ. وَقَيَّدَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: هَاءَ التَّأْنِيثِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ، بِخِلَافِ مَا يُوقَفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ لِلرَّسْمِ. ثُمَّ إِنَّ الْوَقْفَ بِالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ وَرَدَ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَالْكُوفِيِّينَ نَصًّا، وَلَمْ يَأْتِ، عَنِ الْبَاقِينَ فِيهِ شَيْءٌ، وَاسْتَحَبَّهُ أَهْلُ الْأَدَاءِ فِي قِرَاءَتِهِمْ أَيْضًا. وَفَائِدَتُهُ: بَيَانُ الْحَرَكَةِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي الْوَصْلِ لِلْحِرَفِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِيَظْهَرَ لِلسَّامِعِ أَوِ النَّاظِرِ كَيْفَ تِلْكَ الْحَرَكَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْإِبْدَالُ: فَفِي الِاسْمِ الْمَنْصُوبِ الْمُنَوَّنِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْأَلِفِ بَدَلًا مِنَ التَّنْوِينِ وَمِثْلِهِ (إِذَنْ). وَفِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ بِالتَّاءِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ بَدَلًا مِنْهَا. وَفِيمَا آخِرُهُ هَمْزَةٌ مُتَطَرِّفَةٌ بَعْدَ حَرَكَةٍ أَوْ أَلِفٍ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ عِنْدَ حَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا حَرْفَ مَدٍّ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ إِنْ كَانَ أَلِفًا جَازَ حَذْفُهَا نَحْوُ: اقْرَءُوا [الْعَلَق: 1] وَنَبِّئْ [الْحِجْر: 49] وَيَبْدَأُ [الرُّوم: 11]. وَإِنِ امْرُؤٌ [النِّسَاء: 176]، وَمِنْ شَاطِئِ [الْقَصَص: 3] وَيَشَاءُ [التَّكْوِير: 29]، وَمِنَ السَّمَاءِ [الْبَقَرَة: 22]، وَمِنْ مَاءٍ [النُّور: 45]. وَأَمَّا النَّقْلُ: فَفِيمَا آخِرُهُ هَمْزَةٌ بَعْدَ سَاكِنٍ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ عِنْدَ حَمْزَةَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَيْهِ فَيُحَرَّكُ بِهَا، ثُمَّ تُحْذَفُ هِيَ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّاكِنُ صَحِيحًا، نَحْوُ: دِفْءٌ [النَّحْل: 5] مِلْءُ [آلِ عِمْرَانَ: 91]. يَنْظُرُ الْمَرْءُ [عَمَّ: 40]، {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ} [الْحِجْر: 44]، {بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الْأَنْفَال: 24] وَ{بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [الْبَقَرَة: 102]، {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [النَّمْل: 25] وَلَا ثَامِنَ لَهَا. أَمْ يَاءً أَوْ وَاوًا أَصْلِيَّتَيْنِ، سَوَاءً كَانَتَا حَرْفَ مَدٍّ، نَحْوُ: الْمُسِيءُ وَجِيءَ [الزُّمَر: 69] وَيُضِيءُ [النُّور: 35]. أَنْ تَبُوءَ [الْمَائِدَة: 29] لَتَنُوءُ [الْقَصَص: 76]، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ {سُوءٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 30] أَمْ لِينٍ، نَحْوُ: شَيْءٌ، قَوْمَ سَوْءٍ [الْأَنْبِيَاء: 77]. مَثَلُ السَّوْءِ [النَّحْل: 60]. وَأَمَّا الْإِدْغَامُ: فَفِيمَا آخِرُهُ هَمْزٌ بَعْدَ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ زَائِدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ عِنْدَ حَمْزَةَ أَيْضًا بِالْإِدْغَامِ بَعْدَ إِبْدَالِ الْهَمْزِ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ، نَحْوُ: النَّسِيءُ [التَّوْبَة: 37] وَبَرِيءٌ [التَّوْبَة: 3] وَقُرُوءٍ [الْبَقَرَة: 228]. وَأَمَّا الْحَذْفُ: فَفِي الْيَاءَاتِ الزَّوَائِدِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهَا وَصْلًا، وَيَحْذِفُهَا وَقْفًا. وَيَاءَاتُ الزَّوَائِدِ- وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُرْسَمْ- مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ، مِنْهَا: خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ فِي حَشْوِ الْآيِ، وَالْبَاقِي فِي رُءُوسِ الْآيِ. فَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُثْبِتُونَهَا فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ. وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ: يُثْبِتَانِ فِي الْحَالَيْنِ. وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَخَلَفٌ: يَحْذِفُونَ فِي الْحَالَيْنِ. وَرُبَّمَا خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَصْلِهِ فِي بَعْضِهَا. وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ: فَفِي الْيَاءَاتِ الْمَحْذُوفَاتِ وَصْلًا عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهَا وَقْفًا، نَحْوَ: هَادٍ وَوَالٍ وَوَاقٍ وَبَاقٍ. وَأَمَّا الْإِلْحَاقُ: فَمَا يَلْحَقُ آخِرَ الْكَلِمِ مِنْ هَاءَاتِ السَّكْتِ عِنْدَ مَنْ يُلْحِقُهَا فِي: عَمَّ وَفِيمَ وَبِمَ وَلِمَ وَمِمَّ. وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ جَمْعِ الْإِنَاثِ، نَحْوُ: هُنَّ وَمِثْلِهِنَّ. وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، نَحْوُ: الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ وَالْمُفْلِحُونَ. وَالْمُشَدَّدِ الْمَبْنِيِّ، نَحْوُ: {أَلَّا تَعْلُوَا عَلَيَّ} [النَّمْل: 31]. وَ{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَبِمُصْرِخِيَّ [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَلَدَيَّ [النَّمْل: 10].
قَاعِدَةٌ: أَجْمَعُوا عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ رَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي الْوَقْفِ إِبْدَالًا وَإِثْبَاتًا، وَحَذْفًا وَوَصْلًا وَقَطْعًا. إِلَّا أَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُمُ اخْتِلَافٌ فِي أَشْيَاءَ بِأَعْيَانِهَا، كَالْوَقْفِ بِالْهَاءِ عَلَى مَا كُتِبَ بِالتَّاءِ، وَبِإِلْحَاقِ الْهَاءِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ، وَبِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي مَوَاضِعَ لَمْ تُرْسَمْ بِهَا، وَالْوَاوِ فِي: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} [الْإِسْرَاء: 11]، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [الْقَمَر: 6]، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [الْعَلَق: 18] وَ{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشُّورَى: 24]. وَالْأَلِفُ فِي {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّور: 31]، {أَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزُّخْرُف: 49]، {أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرَّحْمَن: 31]. وَتُحْذَفُ النُّونُ فِي: وَكَأَيِّنْ حَيْثُ وَقَعَ فَإِنَّ أَبَا عَمْرٍو يَقِفُ عَلَيْهِ بِالْيَاءِ وَيَصِلُ أَيَّامًا فِي [الْإِسْرَاء: 110]. وَمَالَ فِي [النِّسَاء: 78] وَالْكَهْفِ [49] وَالْفُرْقَانِ [7] وَسَأَلَ [36] وَقَطَعَ وَيْكَأَنَّ... وَيْكَأَنَّهُ [الْقَصَص: 82]. أَلَّا يَسْجُدُوا [النَّمْل: 25]. وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسْمَ فِي الْجَمِيعِ.
هُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ جَدِيرٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّصْنِيفِ، وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْوَقْفِ؛ وَلِهَذَا جَعَلْتُهُ عَقِبَهُ. وَبِهِ يَحْصُلُ حَلُّ إِشْكَالَاتٍ وَكَشْفُ مُعْضِلَاتٍ كَثِيرَةٍ: مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} إِلَى قَوْلِه: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الْأَعْرَاف: 189- 190]؛فَإِنَّ الْآيَةَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ كَمَا يُفْهِمُهُ السِّيَاقُ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ- وَحَسَّنَهُ- وَالْحَاكِمُ- وَصَحَّحَهُ- مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَكِنَّ آخِرَ الْآيَةِ مُشْكِلٌ، حَيْثُ نُسِبَ الْإِشْرَاكُ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَآدَمُ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا إِجْمَاعًا، وَقَدْ جَرَّ ذَلِكَ بَعْضَهُمْ إِلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَنَّهَا فِي رَجُلٍ وَزَوْجَتِهِ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ، وَتَعَدَّى إِلَى تَعْلِيلِ الْحَدِيثِ وَالْحُكْمِ بِنَكَارَتِهِ. وَمَا زِلْتُ فِي وَقْفَةٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِه: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قَالَ: هَذِهِ فَصْلٌ مِنْ آيَةِ آدَمَ، خَاصَّةٌ فِي آلِهَةِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاق: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، سَمِعْتُ صَدَقَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَكِّيَّ يُحَدِّثُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَوْصُولُ الْمَفْصُولُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: هَذِهِ مَفْصُولَةٌ، إِطَاعَةً فِي الْوَلَدِ {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} هَذِهِ لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ. فَانْحَلَّتْ عَنِّي هَذِهِ الْعُقْدَةُ، وَانْجَلَتْ لِي هَذِهِ الْمُعْضِلَةُ، وَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّ آخَرَ قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِيمَا آتَاهُمَا وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ تَخَلُّصٌ إِلَى قِصَّةِ الْعَرَبِ، وَإِشْرَاكِهُمُ الْأَصْنَامَ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الضَّمِيرِ إِلَى الْجَمْعِ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ لَقَالَ: (عَمَّا يُشْرِكَانِ) كَقَوْلِه: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}.. {فَلَمًّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الْأَعْرَاف: 189- 190]، وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا} [الْأَعْرَاف: 191] وَمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَادُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7]، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَصْلِ يَكُونُ، (الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ) وَعَلَى تَقْدِيرِ الْفَصْلِ بِخِلَافِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَأَبِي نَهْيِكٍ، قَالَا: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَوْنُ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى ذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ وَوَصْفِهِمْ بِالزَّيْغِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّسَاء: 101] فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالْخَوْفِ، وَأَنَّهُ لَا قَصْرَ مَعَ الْأَمْنِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ، لَكِنْ بُيِّنَ سَبَبُ النُّزُولِ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمَوْصُولِ الْمَفْصُولِ. فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «سَأَلَ قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النِّسَاء: 101]، ثُمَّ انْقَطَعَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ، غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَمْكَنَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ هَلَّا شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لَهُمْ أُخْرَى مِثْلَهَا فِي أَثَرِهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إِلَى قَوْلِه: {عَذَابًا مُهِينًا} [النِّسَاء: 101] فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ». فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ خِفْتُمْ شَرْطٌ فِيمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ صَلَاةُ الْخَوْفِ لَا صَلَاةُ الْقَصْرِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. هَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْآيَةِ حَسَنٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ (إِذَا). قَالَ ابْنُ الْفَرَس: وَيَصِحُّ مَعَ (إِذَا) عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ زَائِدَةً. قُلْتُ: يَعْنِي وَيَكُونُ مِنِ اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ تَجْعَلَ إِذَا زَائِدَةً بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ زِيَادَتَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ التَّفْسِير: قَدْ تَأْتِي الْعَرَبُ بِكَلِمَةٍ إِلَى جَانِبِ أُخْرَى كَأَنَّهَا مَعَهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا، وَفِي الْقُرْآن: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الْأَعْرَاف: 110] هَذَا قَوْلُ الْمَلَأِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الْأَعْرَاف: 110]. وَمِثْلُهُ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {انْتَهَى كَلَامُهَا، فَقَالَ يُوسُفُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يُوسُفَ: 51- 52]. وَمِثْلُهُ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النَّمْل: 34]. وَمِثْلُهُ: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} انْتَهَى قَوْلُ الْكُفَّارِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوَّلُهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَآخِرُهَا أَهْلُ الْهُدَى، قَالُوا: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] هَذَا قَوْلُ أَهْلِ النِّفَاقِ وَقَالَ أَهْلُ الْهُدَى حِينَ بُعِثُوا مِنْ قُبُورِهِمْ {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنَ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}. وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الْأَنْعَام: 109] قَالَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ؟ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِخَبَرٍ فَقَالَ: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاصحِ، عَمِلَ كِتَابَهُ: قُرَّةَ الْعَيْنِ فِي الْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. قَالَ الدَّانِيُّ: الْفَتْحُ وَالْإِمَالَةُ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، فَاشِيَتَانِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُصَحَاءِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ: فَالْفَتْحُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْإِمَالَةُ لُغَةُ عَامَّةِ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسْدٍ وَقَيْسٍ. قَالَ: وَالْأَصْلُ فِيهَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَأَصْوَاتِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ». قَالَ: فَالْإِمَالَةُ لَا شَكَّ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَمَنْ لُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْأَلِفَ وَالْيَاءَ فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ. قَالَ: يَعْنِي بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ التَّفْخِيمَ وَالْإِمَالَةَ. وَأَخْرَجَ فِي تَارِيخِ الْقُرَّاءِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ الضَّرِيرِ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ طه وَلَمْ يَكْسَرْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: (طِهِ) وَكَسَرَ الطَّاءَ وَالْهَاءَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: طه وَلَمْ يَكْسَرْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: (طِهِ) وَكَسَرَ الطَّاءَ وَالْهَاءَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: طه وَلَمْ يَكْسَرْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: (طِهِ) وَكَسَرَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْعَزْرَمِيُّ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، لَكِنْ ذَهَبَتْ كُتُبُهُ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ! فَأُتِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَحَدِيثُهُ هَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِه: وَكَذَا نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ. وَفِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ، «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: {يَا يَحْيَى} [مَرْيَمَ: 12]. فَقِيلَ: لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُمِيلُ وَلَيْسَ هِيَ لُغَةَ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ: هِيَ لُغَةُ الْأَخْوَالِ بَنِي سَعْدٍ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ فِي الْإِمَالَةِ بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمُصْحَفِ الْيَاءَاتِ فِي مَوْضِعِ الْأَلِفَاتِ فَاتَّبَعُوا الْخَطَّ وَأَمَالُوا لِيَقَرُبُوا مِنَ الْيَاءَاتِ. الْإِمَالَةُ تَعْرِيفُهَا وَأَقْسَامُهَا: أَنْ يَنْحُوَ بِالْفَتْحَةِ نَحْوَ الْكَسْرَةِ، وَبِالْأَلِفِ نَحْوَ: الْيَاءِ كَثِيرًا، وَهُوَ الْمَحْضُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْإِضْجَاعُ وَالْبَطْحُ وَالْكَسْرُ قَلِيلًا، وَهُوَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: التَّقْلِيلُ وَالتَّلْطِيفُ وَبَيْنَ بَيْنَ. فَهِيَ قِسْمَان: شَدِيدَةٌ وَمُتَوَسِّطَةٌ أَيِ الْإِمَالَةُ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالشَّدِيدَةُ يُجْتَنَبُ مَعَهَا الْقَلْبُ الْخَالِصُ، وَالْإِشْبَاعُ الْمُبَالَغُ فِيهِ، وَالْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْفَتْحِ الْمُتَوَسِّطِ وَالْإِمَالَةِ الشَّدِيدَةِ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَعُلَمَاؤُنَا مُخْتَلِفُونَ أَيُّهُمَا أَوْجَهُ وَأَوْلَى؟ وَأَنَا أَخْتَارُ الْإِمَالَةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ بَيْنَ بَيْنَ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْإِمَالَةِ حَاصِلٌ بِهَا، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ أَصْلُ الْأَلِفِ الْيَاءَ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى انْقِلَابِهَا إِلَى الْيَاءِ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ مُشَاكَلَتِهَا لِلْكَسْرِ الْمُجَاوِرِ لَهَا أَوِ الْيَاءِ. وَأَمَّا الْفَتْحُ: فَهُوَ فَتْحُ الْقَارِئِ فَاهُ بِلَفْظِ الْحَرْفِ، وَيُقَالُ لَهُ: التَّفْخِيمُ، وَهُوَ شَدِيدٌ وَمُتَوَسِّطٌ. فَالشَّدِيدُ: هُوَ نِهَايَةُ فَتْحِ الشَّخْصِ فَاهُ بِذَلِكَ الْحَرْفِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ هُوَ مَعْدُومٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. وَالْمُتَوَسِّطُ: مَا بَيْنَ الْفَتْحِ الشَّدِيدِ وَالْإِمَالَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَصْحَابُ الْفَتْحِ مِنَ الْقُرَّاءِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلِ الْإِمَالَةُ فَرْعٌ عَنِ الْفَتْحِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِرَأْسِهِ؟ وَوَجْهُ الْأَوَّل: أَنَّ الْإِمَالَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِسَبَبٍ، فَإِنْ فُقِدَ لَزِمَ الْفَتْحُ، وَإِنْ وُجِدَ جَازَ الْفَتْحُ وَالْإِمَالَةُ، فَمَا مِنْ كَلِمَةٍ تُمَالُ إِلَّا فِي الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُهَا، فَدَلَّ اطِّرَادُ الْفَتْحِ عَلَى أَصَالَتِهِ وَفَرْعِيَّتِهَا. وَالْكَلَامُ فِي الْإِمَالَةِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَسْبَابِهَا، وَوُجُوهِهَا، وَفَائِدَتِهَا، وَمَنْ يُمِيلُ، وَمَا يُمَالُ. وَأَمَّا أَسْبَابُهَا أَيِ الْإِمَالَة: فَذَكَرُهَا الْقُرَّاءُ عَشَرَةً، قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى شَيْئَيْن: أَحَدُهُمَا الْكَسْرَةُ، وَالثَّانِي الْيَاءُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَحَلِّ الْإِمَالَةِ مِنَ الْكَلِمَةِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَيَكُونُ أَيْضًا مُقَدَّرًا فِي مَحَلِّ الْإِمَالَةِ. وَقَدْ تَكُونُ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءُ غَيْرَ مَوْجُودَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَلَا مُقَدَّرَتَيْنِ فِي مَحَلِّ الْإِمَالَةِ، وَلَكِنَّهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ فِي بَعْضِ تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ. وَقَدْ تُمَالُ الْأَلِفُ أَوِ الْفَتْحَةُ لِأَجْلِ أَلِفٍ أُخْرَى أَوْ فَتْحَةٍ أُخْرَى مُمَالَةٍ، وَتُسَمَّى هَذِهِ إِمَالَةٌ لِأَجْلِ إِمَالَةٍ، وَقَدْ تُمَالُ الْأَلِفُ تَشْبِيهًا بِالْأَلِفِ الْمُمَالَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَتُمَالُ أَيْضًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْحَرْفِ، فَتَبْلُغُ الْأَسْبَابُ اثْنَيْ عَشَرَ سَبَبًا. فَأَمَّا الْإِمَالَةُ لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ السَّابِقَة: فَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْفَاصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَلِفِ حَرْفًا وَاحِدًا، نَحْوُ: كِتَابٌ وَحِسَابٌ وَهَذَا الْفَاصِلُ إِنَّمَا حَصَلَ بِاعْتِبَارِ الْأَلِفِ. وَأَمَّا الْفَتْحَةُ الْمُمَالَةُ فَلَا فَاصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَسْرَةِ أَوْ حَرْفَيْنِ أَوَّلُهُمَا سَاكِنٌ نَحْوُ: إِنْسَانٌ أَوْ مَفْتُوحَيْنِ وَالثَّانِي هَاءٌ لِخَفَائِهَا. وَأَمَّا الْيَاءُ السَّابِقَةُ فَإِمَّا مُلَاصِقَةٌ لِلْأَلِفِ كَالْحَيَاةِ، وَالْأَيَامَى، أَوْ مَفْصُولَةٌ بِحَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا الْهَاءُ، كَيَدِهَا. وَأَمَّا الْكَسْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ: فَسَوَاءٌ كَانَتْ لَازِمَةً نَحْوَ عَابِدٍ، أَمْ عَارِضَةً نَحْوَ: (مِنَ النَّاسِ) وَ(فِي النَّارِ). وَأَمَّا الْيَاءُ الْمُتَأَخِّرَةُ فَنَحْوُ: مُبَايِعٌ. وَأَمَّا الْكَسْرَةُ الْمُقَدَّرَةُ فَنَحْوَ: خَافَ إِذِ الْأَصْلُ (خَوِفَ). وَأَمَّا الْيَاءُ الْمُقَدَّرَةُ: فَنَحْوُ: يَخْشَى، وَالْهُدَى، وَأَبَى، وَالثَّرَى فَإِنَّ الْأَلِفَ فِي كُلِّ ذَلِكَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، تَحَرَّكَتْ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا الْكَسْرَةُ الْعَارِضَةُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْكَلِمَة: فَنَحْوُ: طَابَ، وَجَاءَ، وَشَاءَ، وَزَادَ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تُكْسَرُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَحَرِّكِ. وَأَمَّا الْيَاءُ الْعَارِضَةُ كَذَلِكَ، نَحْوُ: تَلَا، وَغَزَا، فَإِنَّ أَلِفَهُمَا عَنْ وَاوٍ، وَإِنَّمَا أُمِيلَتْ لِانْقِلَابِهَا يَاءً فِي تُلِيَ وَغُزِيَ. وَأَمَّا الْإِمَالَةُ لِأَجْلِ الْإِمَالَةِ، فَكَإِمَالَةِ الْكِسَائِيِّ الْأَلِفَ بَعْدَ النُّونِ مِنْ {إِنَّا لِلَّهِ} [الْبَقَرَة: 156] لِإِمَالَةِ الْأَلِفِ مِنْ لِلَّهِ وَلَمْ يُمِلْ وَإِنَّا إِلَيْهِ لِعَدَمِ ذَلِكَ بَعْدَهُ. وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ إِمَالَةَ: الضُّحَى، وَالْقُرَى، وَضُحَاهَا، وَتَلَاهَا. وَأَمَّا الْإِمَالَةُ لِأَجْلِ الشَّبَه: فَإِمَالَةُ أَلِفِ التَّأْنِيثِ فِي نَحْو: الْحُسْنَى، وَأَلِفِ مُوسَى وَعِيسَى لِشَبَهِهَا بِأَلِفِ الْهُدَى. وَأَمَّا الْإِمَالَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَكَإِمَالَةِ النَّاسِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، عَلَى مَا رَوَاهُ صَاحِبُ الْمُبْهِجِ. وَأَمَّا الْإِمَالَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْحَرْفِ؛ فَكَإِمَالَةِ الْفَوَاتِحِ. كَمَا قَالَ سِيبَوَيْه: إِنَّ إِمَالَةَ بَاءٍ وَتَاءٍ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ؛ لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ مَا يُلْفَظُ بِهِ فَلَيْسَتْ مِثْلَ (مَا) وَ(لَا) وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحُرُوفِ. وَأَمَّا وُجُوهُهَا أَيِ الْإِمَالَة: فَأَرْبَعَةٌ، تَرْجِعُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ. أَصْلُهَا اثْنَان: الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِشْعَارُ. فَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ: فَقِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ فِيمَا أُمِيلَ لِسَبَبٍ مَوْجُودٍ فِي اللَّفْظِ، وَفِيمَا أُمِيلَ لِإِمَالَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ عَمَلُ اللِّسَانِ وَمُجَاوَرَةُ النُّطْقِ بِالْحَرْفِ الْمُمَالِ بِسَبَبِ الْإِمَالَةِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْإِشْعَارُ أَيِ الْإِمَالَة: فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إِشْعَارٌ بِالْأَصْلِ، وَإِشْعَارٌ بِمَا يَعْرَضُ فِي الْكَلِمَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَإِشْعَارٌ بِالشَّبَهِ الْمُشْعِرِ بِالْأَصْلِ. وَأَمَّا فَائِدَتُهَا أَيِ الْإِمَالَة: فَسُهُولَةُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللِّسَانَ يَرْتَفِعُ بِالْفَتْحِ وَيَنْحَدِرُ بِالْإِمَالَةِ وَالِانْحِدَارُ أَخَفُّ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ الِارْتِفَاعِ؛ فَلِهَذَا أَمَالَ مَنْ أَمَالَ وَأَمَّا مَنْ فَتَحَ: فَإِنَّهُ رَاعَى كَوْنَ الْفَتْحِ أَمْتَنَ أَوِ الْأَصْلَ. وَأَمَّا مَنْ أَمَالَ: فَكُلُّ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمِلْ شَيْئًا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَا يُمَالُ: فَمَوْضِعُ اسْتِيعَابِهِ كُتُبُ الْقِرَاءَاتِ، وَالْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي الْإِمَالَةِ. وَنَذْكُرُ هُنَا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ ضَابِطٍ: فَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: أَمَالُوا كُلَّ أَلِفٍ مُنْقَلِبَةٍ عَنْ يَاءٍ، حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ، فِي اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ: كَالْهُدَى، وَالْهَوَى، وَالْفَتَى، وَالْعَمَى، وَالزِّنَا، وَأَتَى، وَأَبَى، وَسَعَى، وَيَخْشَى، وَاجْتَبَى، وَاشْتَرَى، وَمَثْوَى، وَمَأْوَى، وَأَدْنَى، وَأَزْكَى. وَكُلَّ أَلِفِ تَأْنِيثٍ عَلَى (فُعْلَى) بِضَمِّ الْفَاءِ أَوْ كَسْرِهَا أَوْ فَتْحِهَا كَطُوبَى، وَبُشْرَى، وَقُصْوَى، وَالْقُرْبَى، وَالْأُنْثَى، وَالدُّنْيَا، وَإِحْدَى، وَذِكْرَى، وَسِيمَا، وَضِيزَى، وَمَوْتَى، وَمَرْضَى، وَالسَّلْوَى، وَالتَّقْوَى، وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ مُوسَى وَعِيسَى وَيَحْيَى. وَكُلَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ (فُعَالَى) بِالضَّمِّ أَوِ الْفَتْح: كَسُكَارَى، وَكُسَالَى، وَأُسَارَى، وَيَتَامَى، وَنَصَارَى، وَالْأَيَامَى. وَكُلَّ مَا رُسِمَ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْيَاءِ نَحْوَ: (بَلَى) وَ(مَتَى) وَ(يَا أَسَفَى) وَ(يَا وَيْلَتَى) وَ(يَا حَسْرَتَى) وَ(أَنَّى) لِلِاسْتِفْهَامِ. وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ: حَتَّى، وَإِلَى، وَعَلَى، وَلَدَى، وَمَا زَكَّى، فَلَمْ تُمَلْ بِحَالٍ. وَكَذَلِكَ: أَمَالُوا مِنَ الْوَاوِيِّ مَا كُسِرَ أَوَّلُهُ أَوْ ضُمَّ، وَهُوَ (الرِّبَا) كَيْفَ وَقَعَ (الضُّحَى) كَيْفَ جَاءَ وَالْقُوَى وَالْعُلَى. وَأَمَالُوا رُءُوسَ الْآيِ مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً جَاءَتْ عَلَى نَسَقٍ، وَهِيَ: طه وَالنَّجْمِ وَسَأَلَ وَالْقِيَامَةِ وَالنَّازِعَاتِ وَعَبَسَ وَالْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَالضُّحَى وَالْعَلَقِ وَوَافَقَ عَلَى هَذِهِ السُّوَرِ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ. وَأَمَالَ أَبُو عَمْرٍو كُلَّ مَا كَانَ فِيهِ رَاءٌ بَعْدَهَا أَلِفٌ بِأَيِّ وَزْنٍ كَانَ كَذِكْرَى وَبُشْرَى وَأَسْرَى وَأَرَاهُ وَاشْتَرَى وَيَرَى وَالْقُرَى وَالنَّصَارَى وَأُسَارَى وَسُكَارَى وَوَافَقَ عَلَى أَلِفَاتِ (فُعْلَى) كَيْفَ أَتَتْ. وَأَمَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ كُلَّ أَلِفٍ بَعْدَهَا رَاءٌ مُتَطَرِّفَةٌ، مَجْرُورَةٌ نَحْوُ: الدَّارِ، وَالنَّارِ، وَالْقَهَّارِ، وَالْغَفَّارِ، وَالنَّهَارِ، وَالدِّيَارِ، وَالْكُفَّارِ، وَالْإِبْكَارِ، وَبِقِنْطَارِ، وَأَبْصَارِهِمْ، وَأَوْبَارِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَحِمَارِكَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَلِفُ أَصْلِيَّةً أَمْ زَائِدَةً. وَأَمَالَ حَمْزَةُ الْأَلِفَ مِنْ عَيْنِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنْ عَشَرَةِ أَفْعَالٍ، وَهِيَ زَادَ وَشَاءَ وَجَاءَ وَخَابَ وَرَانَ وَخَافَ وَزَاغَ وَطَابَ وَضَاقَ وَحَاقَ، حَيْثُ وَقَعَتْ، وَكَيْفَ جَاءَتْ. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ هَاءَ التَّأْنِيثِ وَمَا قَبْلَهَا وَقْفًا مُطْلَقًا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ (فَجَثَتْ زَيْنَبُ لِذَوْدِ شَمْسٍ) فَالْفَاءُ كَخَلِيفَةٍ وَرَأْفَةٍ، وَالْجِيمُ كَوَلِيجَةٍ وَلُجَّةٍ، وَالثَّاءُ كَثَلَاثَةٍ وَخَبِيثَةٍ، وَالتَّاءُ كَبَغْتَةٍ وَالْمَيْتَةِ، وَالزَّايُ كَبَارِزَةٍ وَأَعِزَّةٍ، وَالْيَاءُ كَخَشْيَةٍ وَشَيْبَةٍ، وَالنُّونُ كَسُنَّةٍ وَجَنَّةٍ، وَالْبَاءُ كَحَبَّةٍ وَالتَّوْبَةِ، وَاللَّامُ كَلَيْلَةٍ وَثُلَّةٍ، وَالذَّالُ كَلَذَّةٍ وَالْمَوْقُوذَةِ، وَالْوَاوُ كَقَسْوَةٍ وَالْمَرْوَةِ، وَالدَّالُ كَبَلْدَةٍ وَعِدَّةٍ، وَالشِّينُ كَالْفَاحِشَةِ وَعِيشَةٍ، وَالْمِيمُ كَرَحْمَةٍ وَنِعْمَةٍ وَالسِّينُ كَالْخَامِسَةِ وَخَمْسَةٍ. وَبِفَتْحٍ مُطْلَقًا بَعْدَ عَشَرَةِ أَحْرُفٍ، وَهِيَ جَاعَ، وَحُرُوفُ الِاسْتِعْلَاءِ (قِظَّ خُصَّ ضَغْطٍ) وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ (أَكْهَرْ) إِنْ كَانَ قَبْلَ كُلٍّ مِنْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، أَوْ كَسْرَةٌ مُتَّصِلَةٌ أَوْ مُنْفَصِلَةٌ بِسَاكِنٍ يُمِيلُ، وَإِلَّا بِفَتْحٍ. وَبَقِيَ أَحْرُفٌ فِيهَا خُلْفٌ وَتَفْصِيلٌ، وَلَا ضَابِطَ يَجْمَعُهَا فَلْتُنْظَرْ مِنْ كُتُبِ الْفَنِّ. وَأَمَّا فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَالْإِمَالَةُ فِيهَا: فَأَمَالَ الر فِي السُّورِ الْخَمْسَة: حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَبَيْنَ بَيْنَ وَرْشٌ. وَأَمَالَ الْهَاءَ مِنْ فَاتِحَةِ (مَرْيَمَ) وَ(طه) أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ. وَأَمَالَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ (طه) دُونَ (مَرْيَمَ). وَأَمَالَ الْيَاءَ مِنْ أَوَّلِ (مَرْيَمَ) مَنْ أَمَالَ (الر) إِلَّا أَبَا عَمْرٍو عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمِنْ أَوَّلِ يس الثَّلَاثَةُ الْأَوَّلُونَ وَأَبُو بَكْرٍ. وَأَمَالَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ الطَّاءَ مِنْ طَه وَطسم وَطس وَالْحَاءَ مَنْ حم فِي السُّوَرِ السَّبْعِ، وَوَافَقَهُمْ فِي الْحَاءِ ابْنُ ذَكْوَانَ.
خَاتِمَةٌ: كَرِهَ قَوْمٌ الْإِمَالَةَ لِحَدِيث: «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ». وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَزَلَ بِذَلِكَ، ثُمَّ رُخِّصَ فِي الْإِمَالَةِ. ثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ، لَا يَخْضَعُ الصَّوْتُ فِيهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ. ثَالِثُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: أُنْزِلَ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: وَهُوَ بَعِيدٌ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. رَابِعُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّجْلِيلِ، أَيْ: عَظِّمُوهُ، وَبَجِّلُوهُ، فَحَضَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ وَتَبْجِيلِهِ. خَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفْخِيمِ تَحْرِيكُ أَوْسَاطِ الْكَلِمِ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا دُونَ إِسْكَانِهَا لِأَنَّهُ أَشْبَعُ لَهَا وَأَفْخَمُ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ خَاقَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ سَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ يُخْبِرُ، عَنْ سَلْمَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّفْخِيمِ، نَحْوُ: قَوْلِهُ (الْجُمُعَةَ) وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ التَّثْقِيلِ. ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْحَاكِمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ». وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَحَدُ رُوَاتِه: سَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ: {عُذُرًا أَوْ نُذُرًا} [الْمُرْسَلَات: 6]. {الصَّدَفَيْنِ} [الْكَهْف: 96] يَعْنِي: بِتَحْرِيكِ الْأَوْسَطِ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَبَى عُبَيْدَةَ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُفَخِّمُونَ الْكَلَامَ كُلَّهُ إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا: (عَشْرَةً) فَإِنَّهُمْ يَجْزِمُونَهُ وَأَهْلُ نَجْدٍ يَتْرُكُونَ التَّفْخِيمَ فِي الْكَلَامِ؛ إِلَّا هَذَا الْحَرْفَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ (عَشِرَةَ) بِالْكَسْرِ. قَالَ الدَّانِيُّ: فَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ.
|